Monday, 9 September 2013

الإصلاحي وعدو الدين والخائن



١- بعد ثورة يناير ومع الحماسة التي صاحبت الحراك الثوري وحالة الغضب من النظام المستبد الأسبق والرغبة في تطهير أثاره وبعد العنف والقتل الذي قام بهما أثناء أحداث الثورة والأحداث التي تلتها، فقد سادت حالة من الإستنفار، وظهرت حدة في الأسلوب لدى بعض من رءاهم الناس ممثلين للثورة. فكان هناك إتهامات من بعضهم للغير بالخيانة وعدم الثورية و”الإصلاحية” و”الفلولية” والخنوع والجبن وخيانة دم الشهداء وأنك “أمنجي” إن لم تتفق مع بعض من الطرح والحراك السائد أنذاك، وأدى ذلك للأسف إلى نفور الكثير من الناس من بعض النشطاء والوجوه العامة ومن بعض مشاهد وجوانب الحراك الثوري كذلك. وكنت قد إنتقدت ذلك الأمر أنذاك، كشخص شارك في الثورة وأمن (ولا يزال يؤمن) بها، وأكدت على أنه (كان أنذاك) من الضروري على كل من يؤمن بالثورة ويريد الدفاع عنها أن يتفهم مخاوف الأخرين، ويتقبل وجهات النظر المخالفة عن نية صادقة أو تفهم مصدر ظهورها إن لم يتقبلها، وأن يرتقي بأسلوبه وعمله السياسي ليحاول أن يكسب المزيد من التأييد للثورة وليس خسارة الناس. وظهرت حتى أنذاك ما أطلق عليه البعض "فقاعة تويتر"، والتي عنت أن البعض من مؤيدي الثورة إعتقد أن السائد على تويتر من أراء ظاهرة يعبد عن نبض الشارع المصري بشكل عام. وإنفجرت هذه الفقاعة مع الإنتخابات ومع الوقت.

٢- ثم بدأ التيار الإسلامي في الصعود بعد إنتخابات البرلمان وفوز مرسي، وصُدم البعض ممن إستهانوا به من حجم التعاطف الذي كان يحوز عليه أنذاك ومن حجم فوره في الإنتخابات. وتصاعدت لدى الكثيرين بداخل ذلك التيار في نفس الوقت (وبخاصة في الخطاب الداخلي لهذا التيار) حدة إنتقاد الليبراليين والعلمانيين واليساريين، والتكفير، والسخرية من الأخرين والإستهانة بهم، والإتهامات ب"الفلولية" أو معاداة الدين، ثم الإنقلاب على القوى السياسية والثورية. وتم صياغة رؤية إنتشرت بشكل ليس بقليل سواء لدى قيادات الإخوان وحلفائهم أو لدى مؤيدين وأعضاء الإخوان كذلك بأن كل تلك القوى لا تعبر عن مساحة شعبية حقيقية، وأن أغلب المسيرات الرافضة لمرسي والإخوان كانت من "النصارى وجنود الأمن المركزي والفلول"، وأن الإسلاميين لا يمكن لأحد أن يسقطهم أو يحشد مثلهم، وأن بقية القوى والرموز السياسية إلى زوال محتوم، وأن الأغلبية مع مرسي والإسلاميين بشكل لا يقبل الشك، وأن مؤسسات الدولة تحت السيطرة، وأن "الغالبية الساحقة من الشعب" معهم، وأن السماء تدعمهم. وإنتشر ذلك الخطاب لدى القيادات والقواعد والإعلام المؤيد، ورفضت ما بدت وأنها غالبية من المؤيدين والقيادات كل طرح مخالف أو نصح يأتي من الداخل أو من الخارج لأنهم رأوا أنه "كلام فاضي". ومع تضخم تلك الفقاعة وإخفائها لحالة الغضب العارم خارجها (وبخاصة أن غالبية المواطنين ليس لديهم أي إنتماءات سياسية ثابتة بالأساس وشكلوا الكثير من الكتلة التي إنتخبت الإسلاميين في البرلمان والرئاسة بدافع التجربة)، إنفجرت الفقاعة مع أكبر خروج شعبي في تاريخ مصر، وسقط الإخوان وحلفائهم.

٣- ثم جاءت ٣٠ يونيو، وخرجت أنا كمواطن فيها كما خرجت في يناير وفي نوفمبر/ديسمبر. وبعد مشهد إيجابي إمتلئ بالشعارات الجيدة والتقدمية، بدأت حالة من التعصب القومي والأمني لدى البعض، مدفوعة بشكل مفهوم مما إقترفه الإخوان أثناء فترة حكمهم، وشعور الكثيرين بأن بلدهم كان يتم إختطافها وإضاعتها إداريا وسياسيا وإقتصاديا، وتحويلها لشيء أخر يرفضونه، بالإضافة إلى بعض الشحن الإعلامي. إلا أنه الآن فلا يوجد، وبشكل متزايد، تقبل لنقد للقيادة السياسية أو للرؤى السائدة في الإعلام أو للأجهزة الأمنية، والإنتقادات والوصف بالخيانة والعمالة وعدم الوطنية وتعريض أمن البلاد للخطر جاهز لكل من يختلف ولو قليلا عن السرد والطرح السائد، وهناك حالة من الإستهانة بحجم قاعدة الدعم المتبقية للإخوان والتيار الإسلامي عامة وقدراتها على التماسك والأداء الإنتخابي، ومحاولة للإعتقاد أن الحلول الأمنية يمكنها أن تحسم كل جوانب الأمر، وأن ما فشل في الماضي أكثر من مرة يمكنه أن ينجح اليوم. كما أن البعض فيما يبدو بدأ سريعا في الإنهماك في معارك وتصفية حسابات مع نشطاء وشخصيات عامة وسياسية هو على خلاف معها. كما أن البعض في القاعدة الشعبية ل ٣٠ يونيو كذلك بدأ يصيبه التعصب، وعدم الرغبة في سماع أي شيء يخالف ما يريد سماعه، وزيادة وتيرة العنف في الفترة الماضية تقوم بشحن البعض نفسيا بما يجعل من الصعب حدوث مناقشات مكتملة الموضوعية في الإعلام أو بين الناس حول المشهد الراهن وتفاصيله في أي شيء. وهناك بوادر فقاعة جديدة تبدأ في التشكل.

الخاسر في نهاية المطاف هو من يرى ذاته صاحب قضية، سواء من ذكرتهم أم غيرهم. فرفضه لكل الأطروحات المخالفة ولو جزئيا أو للنقد وتعصبه وثقته المبالغ بها في رأيه ورؤيته سيعمونه عاجلا أم أجلا عن حقيقة ما قد تكون تحدث بالفعل وتخالف رؤيته هو، وستصطدم تلك الحقيقة في وجهه وتهوى به وبقضيته. حدث ذلك مع مبارك ومن حوله، حدث ذلك بشكل ما مع التيار المدني والثوري بعد يناير، وحدث ذلك مع الإخوان والتيار الإسلامي. والقاعدة التاريخية العامة هي أن تكرار نفس الأمور والمدخلات والإختيارات يؤدي إلى تكرار نفس النتائج.

الطريق إلى الحفاظ على ما تبقى من ٢٥ يناير والروح الأساسية المدنية والرافضة للإستبداد التي خرجت في ٣٠ يونيو هو ألا نكرر ما أسقط من سبقوا. الأمان والدفاع عن الأمن بشراسة وحسم وحزم يمكن أن يقترنان بدولة الحريات والحقوق والديمقراطية والشفافية، وأقوى دول العالم وأكثرهها إستقرار هي التي صنعت تلك المعادلة المنطقية. 

Sunday, 8 September 2013

حول ما يسمى ب "مؤامرة ثورات الربيع العربي"

من الظواهر التي تتوسع بشكل واضح في الفترة الماضية هي إنتشار نظرية المؤامرة في تناول العديد من المشاهد والأحداث الحالية، وإفتراض وجود بالضرورة قوى خفية ما تتحكم في كل الخيوط في كل الأمور بشكل كامل من وراء الستار، وأننا وغيرنا من العرب دائما لا حول لنا ولا قوة. ويتم في نفس الإطار التعامل مع العديد من الإستنتاجات والنظريات الشخصية على أنها واقع مثبت لا يقبل الجدل، ومع تكرار الأمر بشكل مستمر، تتحول النظرية من تلقاء ذاتها إلى حقيقة.

وإحدى أحدث تلك النظريات هي نظرية أن ثورات وإنتفاضات الربيع العربي كلها كانت “مؤامرة” من الغرب وغير الغرب لتدمير وتفتيت وإضعاف المنطقة، وأنها لم تكن ولو في جزء منها إنتفاضات شعبية وعفوية حقيقية ممن فاض بهم الكيل ضد واقع إحتاج ولو لبعض التغيير. وقراءتي الشخصية المتواضعة تجد أن هذه الفكرة تنافي المنطق على أكثر من صعيد. ولا ينفي أحد أن مصر وسائر الدول العربية (مثلها مثل كل الدول العالم، مع كون الشرق الأوسط أكثر حدة وتعقيدا أهمية في بعض الأمور بالطبع) هي مراكز لأطماع ومصالح دولية وإقليمية متصارعة ومتناقضة. ولكن المشكلة في أطروحة هذه المؤامرة بالتحديد هو أن هذه المؤامرة الدولية، إن وجدت بالشكل الذي يصفه البعض، تناقض بشكل واضح ما يوجد عليه توافق واسع أنها مصالح الغرب الإستراتيجية والراسخة منذ عقود.

فالمتعارف عليه أن مصالح الغرب والمجتمع الدولي تتمركز حول إستقرار المنطقة، إستمرار وإستقرار تدفق النفط والغاز وأسعارهما، السيطرة على الإسلام السياسي الذي كان يصدر خطابا كله تحديا ومعاداة للغرب وإسرائيل (حتى حكم ذلك التيار)، ومنع ظهور تعقيدات جيوسياسية مع محاربة النفوذ الإيراني وإحتواد النفوذ التركي، منع إنهيار الإقتصادات العربية أو ضعفها الشديد بما يدفع إلى التشدد الذي يصنع الإرهاب أو فوضى لا يمكن السيطرة عليها أو إغلاق أسواق للصادرات الأجنبية أو بما يؤدي إلى زيادة الهجرة الغير شرعية - مع وجود درجة من النمو تسمح بإنهماك الدول العربية في شئونها الداخلية وفي فتح المزيد من الأسواق لتصدير السلع الغربية، إستقرار الأمور بقناة السويس، الحفاظ على أمن إسرائيل، ومحاولة إحتواء القوى العسكرية العربية بما لا يجعل منها تهديدا حقيقيا، إلخ..

والحقيقة هو أن الوضع السائد حتى ٢٠١٠ كان يحقق ذلك بشكل كبير. فنظام مبارك كان على علاقات راسخة مع الولايات المتحدة وكان حليفا مفيدا للغاية للغرب، ونظام القذافي كان يقترب يوما بعد يوم من الغرب في سنواته الأخيرة، والنظام السابق في اليمن كان على علاقة جيدة كذلك بالبيت الأبيض بالرغم من التوتر في إطار الحرب على القاعدة في اليمن، والعلاقات الخليجية-الأمريكية كانت مستقرة والنظم الخليجية كانت تقف كحائط صد ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتدفق مصادر الطاقة كان مستمرا، والنظام السوري إنهمك في الشأن الداخلي وبردت حدوده مع إسرائيل لسنوات وسنوات (ولكن ظلت علاقاته بإيران وحزب الله تحديدا مصادر قلق للغرب)، والقواعد الأمريكية في المنطقة كانت مستمرة كذلك، والنظام السابق في تونس كان كذلك قريبا من الغرب ويحارب الإسلام السياسي، وما إلى غير ذلك. ودول المنطقة ككل كانت تقوم بإصلاحات محدودة كل فترة وفترة لإعطاء شكل التحرك في تجاه الديمقراطية والحريات، بما يعطي للإدارة الأمريكية ما يشبه إنتصارات سياسية شكلية كذلك. أما الأوضاع التي سادت وتسود منذ إندلاع ما سمي بالربيع العربي تمثل كابوسا سياسيا وجيوسياسيا للغرب وللولايات المتحدة، بكل المقاييس، بل هو يكاد يكون كابوس مختلف كل أسبوع، كما أن حالة الفوضى والسيولة الشديدة في المنطقة تجعل التخطيط السياسي والإقتصادي البعيد المدى للغرب في كل ما يتعلق بالمنطقة أمر مستحيل، وتقييم أغلب الناخبين في الدول الغربية (وبخاصة أمريكا) فيما يتعلق بأداء حكوماتهم فيما يخص المنطقة العربية من ٢٠١١ هو تقييم سلبي في مجمله.

بالإضافة إلى ذلك، فإن رؤية أن كل ما حدث من إنتفاضات وثورات أنها كانت مؤامرة من الخارج أو من الإسلام السياسي في الداخل هو محالفة لواقع شاهدناه وعايشناه، من خروج واسع من كافة الطيف السياسي وتردد مجموعات الإسلام السياسي بشكل واضح في المشاركة في بداية تلك التحركات، حتى وإن إفترضنا وجود تشجيع خارجي تبع ذلك في بعض الحالات من بعض الجهات الغير غربية بالتحديد. وفي حالة مصر، مثلا، فثورة يناير حملت شعارات ومطالب لا يختلف حولها أثنان، وكانت شعارات ومبادئ ومطالب مدنية وتقدمية بشكل واضح ومبنية على واقع كان بالفعل لابد من تغييره. ولكن تخبط المرحلية الإنتقالية سببه فشل القوى السياسية المدنية واليمينية المحافظة والشبابية الثورية وتصارعهم، وفشل القيادة العسكرية الحاكمة أنذاك، وحدث كل ذلك بتفاصيله أمام مسمعنا وبصرنا، وكان يمكن إنقاذه وإصلاحه. أما محاولة إختطاف الإخوان للحكم في مصر والإستئثار به سببه إغراء قوة التنظيم وضعف القوى المدنية بالإضافة إلى الأيديولوجية المسيطرة على قيادات الإخوان. وكل الإتهامات للبعض بالعمالة والتمويل من الخارج لم يثبت لها بعد أكثر من سنتين ونصف أي دليل حتى الآن، حتى بعد التحقيقات الرسمية، وبالتالي تظل كلها إدعاءات وإتهامات عليها أن تقف حتى يظهر لها دليل أخر أو أن يتم تقبل أنها ظنون وشكوك بالمقام الأول.

كون أن مصر والدول العربية تمر بالتخبط والأزمات والتحديات هو إنعكاس لواقعها الداخلي قبل أن يكون كذلك إنعكاس لأي مؤامرات محتملة، وكون أن تلك الثورات أو الإنتفاضات فشلت حتى الآن بشكل كبير في تحقيق أهدافها الرسمية النبيلة والتقدمية أو تم إختطافها وإفسادها من قبل فصيل أو أكثر هو إنعكاس لفشل القوى السياسية والمؤثرة بشكل مباشر قبل أن يكون إنعكاسا لأي شيء أخر.

هناك بالفعل مصالح للغير في بلادنا، ولكننا لسنا دمى، وثورة يناير تظل نقطة مضيئة في تاريخ مصر حتى وإن حاول البعض إختطافها أو حاول البعض تشويهها ومن إرتبط بها ليعيد عقارب الساعة إلى الوراء بشكل كامل. طبعا الطرح هنا به بعض من التبسيط للأمور والإختصار بما قد يضع جانبا بعض التعقيدات المعروفة، ولهذا مجال أخر للحديث.

Wednesday, 7 August 2013

President Morsisi

Torn between Morsi and El-Sisi? Well, then how about: President Morsisi? And there's even a T-Shirt proposal ready for eager supporters.


On The Terms Of Any Potential Political Settlement In Egypt

From a purely technical point of view, everyone knows what the terms of any political settlement in Egypt would revolve around. They would include: confidence building measures, safety from at least any politically-driven prosecution, return of Islamist shut down media or allowing the creation of alternatives, toning down the rhetoric in the private media, Morsi's release, guarantees of involvement of Islamists in political life and the roadmap (potentially with minor discussions over the roadmap). Question is: does either side want this, and whether or not they could sell this to their crowds. Until then, each side will try to find a breaking point or improve his bargaining power. And we all know what will happen in the meanwhile.

Friday, 2 August 2013

On The Breaking Up Of The Rabaa Sit-In

(Note: this post is an edited form of a Facebook status I had written earlier, hence the somewhat less polished form) 


Short version: Einstein said that repeating the same thing, over and over again, while expecting different results is the definition of insanity. And to answer the utterly exasperating question of "are you suddenly an expert on the subject" by way of a somewhat silly analogy: you don't have to be a medical expert to know that you won't cure someone's broken arm by pushing him off a roof or breaking his leg.

Historic Pattern: Using force against sit-ins since 2011 in the experiences and eras of Mubarak, SCAF and Morsi always resulted in the SAME result: more people joined, they became more violent and confrontational and less willing to compromise, a stain glued itself on the legitimacy of whoever was in power, and (in many cases) people sympathised with those who were the subject of the usage of force (especially as most Egyptians are still politically independent, non-partisan and non-ideological), and sizeable political problems ensued internationally as well. Then, most importantly, there was almost always a human "tragedy" that left an indelible scar on our consciousness. Lives were lost, people were injured, and judicial due process never yielded any satisfying results. Add to that: the police's record on how it tactically handled most protests or sit ins since 2011 leaves us feeling more tense than comfortable.

Conversely, as one example: on the other hand, every time a sit-in was left alone, and the political process moved briskly along at the same time (whether the political transition was moving fast on its own or there was some form of a dialogue going on), such a sit in eventually ended or lost much of its steam or momentum until it became a non-factor.

This situation is one of the most complicated since 2011, if not the most. It is quite volatile, volcanic and sensitive. The way it is handled will strongly affect the stability, image and future of Egypt, locally and internationally. The situation has to be contained, the political process has to move along, and surely any violence or transgressions perpetrated by the demonstrating side should be dealt with decisively, according to the law and international standards. Meanwhile, the pro-Morsi side needs to reevaluate where it truly stands right now, what it actually can and cannot gain, and - if the protesters remain in their sit-in for a while longer - how they can make the lives of people around them in the area immediately safer and easier. And yes, what I am writing here sounds too idealistic given the ground reality, but someone has to write something that is at least a bit idealistic.

(Bonus Blog Note: the Muslim Brotherhood should note that it is a form of child abuse to make children wear burial shrouds and go on demonstrations as such. Better yet - to all sides in Egypt - keep kids entirely out of politics. Let them be, you know, kids.)


Monday, 22 July 2013

في مديح عدم التأكد والأفكار المعقدة وألوان الطيف


(١)

هذه مقالة منعزلة عن كل ما يحدث، ولكنها عن كل ما حدث، وكل ما يحدث، وكل ما سيحدث.

***

(٢)

مقدمة كان لابد من إختصارها بعض الشيء:

في بداية حياتك تلعب في بيتك وحيدا، فترسم عشوائيا وبكل حماسة بالقلم الرصاص الأسود على الصفحات الخاوية البيضاء، فلا يهمك كثيرا ما ترسم بقدر إنبهارك بالرسم كفعل في حد ذاته، وبقدر إنبهارك بقدرتك على ترك أثرا أو صنع شيئا من لا شيء. ثم تذهب إلى الحضانة فيعطونك كتيبات الرسم التي تقوم فيها بتتبع صورا مرسومة مسبقا بنفس القلم الرصاص البسيط، فتكتشف بعض مما يمكنه أن يصنع. ثم تأخذ كتب التلوين فترى الرسومات ذات الفراغات، كلها خطوطا سوداء دقيقة مرسومة على صفحات بيضاء. ثم يعطونك علبة أقلام من ثمانية ألوان دارجة، فتقوم بالتلوين بها في تلك الكتب لفترة حتى تحفظ مع الوقت مواقع الأقلام في العلبة دون الحاجة للنظر إليها، ويتمحور عقلك حول تلك الألوان الثماني وما يمكن أن تفعله بها. ثم تكتشف يوما - إنت كنت محظوظا - علبة الألوان ذات ال٢٤ قلما، وذات الأطراف السميكة والرفيعة، فيكاد عقلك ألا يصدق نفسه، وتتحسر على كل ما كان يمكن أن تقوم بتلوينه منذ سنة أو أكثر بشكل أفضل وأكثر واقعية لو كنت تعلم أن هذه الألوان والأنواع من الأقلام موجودة. ثم تكتشف علبة ألوان بها أكثر من خمسين لونا، فيزداد عدم تصديقك لما بين يديك. وتقع في غرام كل الألوان تقريبا، حتى وإن كنت تفضل بعضها على البعض، فتجربها كلها ولو مرة واحدة على الأقل لتراها بعينيك، ثم تستخدمها كلها تقريبا بعد ذلك بحسب حاجتك دون رفض قاطع لبعضها. ثم تبدأ أنت في رسم الأشكال التي تريد تلوينها، دون التقيد بكتيبات التلوين الجاهزة، فتعرف أن الإحتمالات ربما تكون لانهائية لما يمكن أن تصنعه. ثم تكتشف ألوان الماء وألوان الزيت والرصاص والفلوماستر وغيرها، وتكتشف أن نفس درجة اللون يوجد منها أنواعا مختلفة ذات خصائص وإستخدامات متعددة. ثم تأتي تلك اللحظة عندما تكتشف - ربما بمحض الصدفة - أنه يمكنك أن تخلط الألوان لتصنع لونا جديدا ربما ليس عندك منه في تلك اللحظة، أو حتى لونا جديدا لم تتخيل وجوده، فتدرك أنك قد صرت أنت في هذه اللحظة شيئا لم تتخيله قط: صانعا للألوان، وليس مجرد مستهلك لها. 

ستحتار كثيرا عند وصولك تلك المرحلة قبل أن تقرر ماذا سترسم اليوم، وعلى أي نوع من الورق، وبأي أداة للرسم، وكيف ستلون تلك الرسمة إن إخترت تلوينها، وبأي نوع من الألوان، إلخ. إلا أنها ستكون حيرة ممتعة، تأتي من معرفة أن الإحتمالات لا تنتهي.

***

ثم تمر السنوات وتكبر في العمر، وتعود إلى الوراء.

فتصير دائما مطالبا بأن تختار بين أبيض وأسود، وبين هذا أو ذلك، وفي كل الأمور، بدئا من رؤيتك للدنيا، من تحب ومن تكره، موقفك من أحداث تاريخية وأحداث حالية، أراءك الأيديولوجية وأراءك في الشعوب والفنون والكتب والشخصيات العامة والعادات والتقاليد والقوانين والسياسة والرياضة، وغيرها. وفي بعض الأمور، فهناك بجانب الأبيض والأسود بعض الألوان والأراء الصلبة المحدودة المعدة سلفا التي يمكن أن تختار منها، ولا تختار خارجها. فإن لم تستطع، فأنت إذا بالنسبة للبعض ضعيفا، غير حاسما، مراهقا فكريا، مضيعا لوقتك في نقاشات واضحة، تريد أن تختبئ بجبنك وترددك وضعفك وراء ستار من الحيادية أو الوسطية أو المغامرات الفكرية الكاذبة. وبالتأكيد، فالبعض لديه بعض المشاكل الحقيقية في إتخاذ القرارات والمواقف بالفعل.

ولكن البعض الأخر يختلف.

فمتى أصبح رفض الأبيض والأسود كلونان مجبوران علينا عيبا وضعفا وترددا؟

ولماذا ننسى كل الإحتمالات والألوان التي بينهما؟

وننسى الألوان التي بين الألوان؟

وننسى أنواع الألوان والأقلام؟

وننسى أنه يمكننا أن نصنع الألوان بأيدينا؟

أو أنه من حقنا كذلك أن نترك الورقة بيضاء إن أردنا، ولو لفترة!؟

***

(٢)

قيل لي عندما كنت صغيرا أنه من قال لا أعلم فقد أفتى”. ومنذ ذلك اليوم، لم أسمع أحدا يُفتي بتلك الفتوى تحديدا!

***

لماذا صرنا رافضين أن نقبل أننا قد نحتاج إلى وقت طويل للتفكير في بعض الأمور، وأننا قد نكتشف أن ما لدينا من معلومات وقدرات تحليلية لا يسعفانا في الوقت الحالي؟ لماذا نرفض بأننا أحيانا فريسة لطُرُق التفكير والأدوات التحليلية والقوالب والأفكار المعبأة مسبقا، والتي يعاني عقلنا دون ذنب منه للخروج منها؟ لماذا نرفض أن بعض الأسئلة ربما لا يمكن الإجابة عليها مطلقا لصعوبتها أو لعدم إمكانية الحصول على المعلومات القاطعة للإجابة عليها؟ لماذا نرفض بشكل متزايد أن نقبل أنه في جدل ما قد نجد أن كل أو أغلب وجهات النظر بها قدر من الصحة، أو أنه قد لا توجد وجهة نظر واحدة منهم تبدو صحيحة كليا لنا، وأننا ربما نحتاج إلى فكرة جديدة تماما؟ لماذا لا نقبل أن الكثير من الأمور لا يمكن التأكد منها بأكثر من ٩٩.٩٪ على أفضل الأحوال؟ ولماذا لا نقبل بأننا كلنا منحازون بشكل مُضِر أثناء بحثنا عن الحقائق والإجوبة بسبب إنتماءاتنا السياسية والإجتماعية والمجتمعية والثقافية والعمرية وغيرها، وما تعودنا عليه وتم إجبارنا على التعود عليه حتى إعتقدنا أنه أمرا طبيعيا لا بديلا عنه، مما سيؤثر سلبا على موضوعيتنا بشكل لا مهرب سهل منه، وعلى ما نريد من الحقيقة أن تكون؟ لماذا نفترض كثيرا أن كل من هو غيرنا بالتأكيد مخطئ في خياراته أو قناعاته أو تفضيلاته أو أسلوب حياته؟ لماذا لا نقبل أن عدم التأكد من أمر ما، ولو مؤقتا، قد يكون الموقف السليم عقليا ونظريا بما لدينا من معلومات وبيانات وتحليل في تلك اللحظة؟ لماذا نرفض، مثلا، أن شخصا ما مثيرا للجدل (له من يقدسه ومن يكره يوم ميلاده) قد يكون به من العظمة ومن الحقارة في نفس الوقت، دون تناقض بالضرورة؟ لماذا نرفض أن بعض الصراعات قد لا تكون بالضرورة بين خير وشر مطلقين، ولكن بين خيرين أو أكثر، أو نوعين أو درجتين من الشرور أو أكثر؟ لماذا لا يرى البعض المفارقة بأن أغلب العلماء الحقيقيين يبدؤون كلماتهم ب "أنا أعتقد"؟ لماذا نرفض في عناد أن الكثير من الإجابات بطبيعتها معقدة ومتعددة المحاور، وأن تبسيطها المبالغ فيه ليس من النجاح أو الذكاء في شيء؟

***

الإقرار بعدم المعرفة أحينا وبعدم التأكد، بعدم التخوف من طلب المزيد من الوقت والمعلومات، برؤية قدر من الصحة في الكثير من وجهات النظر المتنافسة أحيانا هم من علامات الشخص المنفتح فكريا، الشخص الذي لا يشعر بالنقص أو الحاجة المستمرة في إثبات عدم جهله عن طريق إدعاء التأكد على ذاته قبل إدعاء التأكد أمام غيره، وهو كذلك الشخص الذي لا يخاف تشكيل حقائقه وإجاباته بذاته بعيدا عن الحقائق والإجابات المعدة مسبقا، والشخص الذي يعرف بأنه يوجد أكثر بكثير في طيف الأفكار والإحتمالات والإجابات من الأبيض والأسود، بل وحتى أكثر بكثير جدا من الألوان الصلبة والأساسية التي نجدها في علبة التلوين التي ذات ال٨ أقلام التي تربينا عليها كأطفال وحفظتها عقولنا، وتعودنا مع الوقت ألا نملئ الفراغات إلا بها، وأصبح من الجرم أحيانا أن تخرج عنها.

فلنمدح للحظة هؤلاء الذين يرون كل الألوان، والذين يصنعون الألوان الجديدة إن إحتاجوا لذلك، الذين يدمنون البحث النزيه عن الحقائق بدلا من إدمان إتخاذ المواقف في أسرع وقت ممكن ليحصلون على ثقة خاوية في أنفسهم، والذين يعرفون أن إجابات "لا أعلم، لست متأكدا، أنا أعتقد، دعني أفكر، ليس الأمر بهذه البساطة" هي إجابات عظيمة تحتاج البشرية أن تستخدمها أكثر بكثير مما تفعل الآن. ولنمدح للحظة من يحطمون القوالب ولا يخافون الخروج عنها. ولنمدح للحظة من يقرر كل فترة وفترة أن يعود عقله صفحة بيضاء، يقوم بإعادة رسمها وتلوينها دون خوف.


*(هذا مقال كتبته منذ فترة ونسيته تماما، ثم تذكرته فجأة وقررت نشره اليوم.)

Friday, 19 July 2013

What Complicates Reconciling With The Brotherhood In Egypt

Supporters Of Morsi In Rab'aa Square

This is not an exhaustive piece. Rather, this is mainly an appendix to a piece I've just published in Al-Monitor, debating the options the Brotherhood could pursue now, and the situation they're in.

There is a lot of talk about whether or not reconciliation in Egypt can actually take place, and the talk understandably focuses largely on whether or not the current administration (with the military at its heart, or head, depending on how you see it) would reconcile with the Brotherhood if there is such a mood on the other side as well. Critics argue that while the administration might be sounding many correct gestures and claims (including regularly reassuring inclusion and reconciliation while also allegedly offering cabinet positions to Brotherhood members), there are arrests and seemingly a legal witch hunt against the Brotherhood and allied Islamists. The critics further argue that if the current leadership in Egypt somehow decided behind the scenes that enough was enough, things would just cool down, the witch hunt would stop, the media in Egypt would tone down its obviously biased (read: vengeful) tone. But that perhaps misses at least some the complexity of the situation.

What is important to note is that each of the current anti-Morsi groups seemingly has its own vendetta. The judiciary has had a long fight against Morsi and the Brotherhood. The prosecutorial corps in particular has been up in arms against Morsi's handpicked prosecutor-general and what his reign entailed. The private media has been furious (other than due to ideological enmity) from intimidations by Morsi and the Brotherhood against them, including the onslaught of "Insulting The President" and "Contempt Of Religion" charges as well as the regular siege of the media production city by Islamists, among others. The police is not exactly a friendly entity to the Brotherhood and Morsi either. The liberal and leftist parties, which mostly backed Morsi in his run against the secular opponent Ahmed Shafiq who was seen as close to the former regime, now speak of Morsi as they speak of Mubarak, if not worse; and of the MB as they speak of the NDP, if not worse. There are even those in the state bureaucracy who resented what they saw as the "Brotherhoodisation" of the state, namely the installation of Brotherhood members in key positions, perhaps regardless of qualification. Then there is the military of course. But perhaps most importantly, the degree of popular outrage against the Brotherhood is apparently such that, if the reports some share are accurate, the grassroots anger and exclusionary sentiment towards the Brotherhood by even many normal people has become quite substantial (yesterday, a non-Cairene was claiming to me that Brotherhood-owned shops in his town were being attacked).

My point here is that there are many who have their own separate scores to settle. So, even if the country's "leadership" did decide to reconcile, it's not necessarily a given the others would simply play along. Reconciliation in Egypt would be a long, difficult and multi-layered process.


Monday, 15 July 2013

A Note On Recent Western Punditry On Egypt


Morsi proclaiming that one year was enough for his patience
 with the media and opposing figures

There is certainly a lot of writing coming out on Egypt these days from around the world. A lot of it is brilliant, thought-provoking work, and some of it often provides an outside perspective that those who remain inside the country or are entirely focused on it could sometimes lose. But, on the other hand, a substantial portion of it suffers.

More specifically, there are often way too many generalisations, rushing to sensationalist conclusions, much over-simplification, too many attempts at comparing Egypt to Pakistan or other countries, at times a desire for content-destroying political correctness (that we all suffer from at times), generalist knowledge by some commentators of the Egyptian situation that lacks some modicum of fuller cognition of its details and complications, and more. Egypt appears to increasingly be its own complex experiment and model, and even many of us who literally do nothing but write on Egypt find many of its developments to be baffling. Egypt is not a straightforward country by any means possible. 

Example of such writing? Almost all the "End Of Political Islam"-proclaiming articles. But my main concern here is the increasing apologist, politically correct and somewhat whitewashing tone recently apparent in writings on Morsi and the Brotherhood. I have consistently, and up to June 30th, argued that reconciliation was the only path for Egypt, and saw that it was best - all things considered - that Morsi stayed in power, rebuilt his legitimacy and created a new national political contract everyone could accept. I still believe in reconciliation and inclusiveness. And there is indeed much to criticise about the state of Egypt right now. Such list includes: the unbalanced and unprofessional approach of the media to the current situation and the suspension of all pro-Morsi outlets. Morsi’s continued detention is a cause for deep concern. The list also includes the ultra-polarised and often vile political environment and discourse that exists, coupled with a mutual complete demonisation of the other. It also includes the apparent witch hunt against the Brotherhood and the dwindling reconciliation and inclusiveness prospects. Some of the details of Military's roadmap come to mind as well. The actions of the NSF, now and before, surely make an appearance on the list. The tragic loss of lives from the Republican Guard debacle is unforgettable. And more. And for many, the resilience of the Brotherhood and its few remaining allies is quite impressive to be sure.

But that does not mean that Morsi’s presidency should suddenly be whitewashed or his (and the Brotherhood's) mistakes or transgressions be downsized. As far as I'm concerned and as I enumerated in more detail recently, I believe (as mindful of my biases, and of the challenges posed by the deep state against Morsi, as I can be) Morsi had swiftly stabbed his claims to “legitimacy” since November when he issued the disastrous decree, that he had no power to issue in the first place, putting himself entirely above the law and the existing constitutional framework (he only rescinded it after having achieved its purposes, and while keeping all effects obtained through it.) Morsi followed that by a reckless detonation of the constitution-drafting process and the denial of Egypt of the chance to have a  respected political framework everyone can unite around (Egypt's Opposition did not recognise the new constitution, at least as it stood, and with some fair reason). Since then, and instead of attempting to rebuild his legitimacy, Morsi and the Brotherhood embarked on an aggressive power grab that even alienated his former Islamist allies and turned his former revolutionary coalition against him, violated the separation of powers, used intimidation (legal and beyond, mostly through allies) against the private media and the opposition, created a deformed and widely-denounced MB-dominated ersatz full legislative entity in the Shura Council, among many other things (click her for a longer, but definitely incomplete, list). His last act of power before June 30th was a two-and-a-half hour speech in which he was bluntly promising that "one year was enough" of his patience with the supposed transgressions by opposing figures and the media (even cartoonishly naming names on air) and that he was planning firm measures against them, which was followed the  day after by preliminary measures including removing opposition channels from the management board overseeing the (media) free zone, putting an opposition TV network owner on a no-fly list all of a sudden for alleged tax problems that just happened to matter before June 30, and sacking the head of a state-owned conference centre the opposition used. All of this is setting aside utter ineptitude in managing the state, a unanimously denounced government (even by the Brotherhood and the FJP!), hate speech and incitement used by his supporting media (in some ways being channeled now by a somewhat vengeful private media), and more. I genuinely believe that Morsi's legitimacy by the time of the June 30 uprising (and even, more controversially, much of that of the constitutional framework he spearheaded)  should at least not be treated as a firm given in any debate. Some will come back with arguments along the lines of "the deep state and the politicised judiciary required some unorthodox responses", and they'd be substantially mistaken. It essentially required maintaining the unity of the revolutionary front along sensible lines and compromises, the same unity that got Morsi barely elected. 

Commentators have all the right in the world to be strong in the criticism and worry of what is happening in Egypt right now, including the role of the army in this entire process, the potential implications of  the suspension of a constitutional framework, the possible return of much of the former regime and the police state, and the vengefulness of much of the state and media against Morsi and the MB. But downsizing what Morsi has done in his year in power, the destructive impact his presidency has had on Egypt's transition towards a proper political and constitutional base (and on the condition of Egypt itself), the derailment of the January Revolution and its division, all this downsizing has a dangerous effect on the fullness and value of the current conversation and debate. The pro-Morsi rally can be admired for its steadfastness, patience, unity and even courage. But the claims sounded from its stage of defending democracy, legitimacy and protecting the January Revolution have a difficult ttime registering. 

Of course, feel free to disagree, and I certainly do not claim to have ownership of the truth.

Monday, 17 June 2013

بين الإحباط والغضب والأمل


سوف أرتكب، نسبيا، جريمة صغيرة وبريئة في هذه المقال. فلقد قررت أن أنشر في الكثير من نصه - على عكس العادة - بعضا من الطاقة السلبية التي أشعر بها. ورأيت لذلك أنه من الأفضل أن أنشرها في مدونتي بدلا من موقع، مع أن الفكرة قد راودتي.

فمصر تمتلئ بحالة من الحراك المهول هذه الأيام، والطاقة البشرية المتفجرة بأنواعها منتشرة في هواء بشكل غير عادي، ويكاد يكون من المستحيل أن تتجنب أي من ذلك حتى وإن حاولت بأقصى جهدك. فالكل يتحدث عن يوم ال ٣٠ من يونيو، والشوارع تمتلئ بالمشهد المتفرد لحركةتمردوهي تكاد لا تلاحق على الطلب المتزايد على التوقيعات وتقترب بحسب زعمها من عدد التوقيعات التي تسعى وراءه، وأرى الشباب والكبار وهم يقفون بصورة متواصلة في الحر القاسي ليقومون بتوزيع الإستمارات، وأرى الناس وهم ينزلون من سياراتهم ويعبرون الشوارع ليوقعوا (وأنا منهم) على الإستمارات تلك. وأرى عزما حقيقيا بعدم الإستسلام لميلاد ما يراه هؤلاء أنه نظام متسلط جديد، وهناك كذلك مناعة متزايدة ضد الإنسياق وراء الإبتزاز العاطفي أو الشعارات من هذا النظام ومؤيديه. وفي المقابل، فإن مؤيدو هذا النظام أو هذه الإدارة الحالية أيضا في حالة من الحراك للدفاع عن وجهة نظرهم وعن ما يرونه من حكم لا يزال - في رؤيتهم - لديه من الشرعية ما يكفل بقاءه، ويجمعون كذلك التوقيعات لحركةتجرد، ويتحدثون - بعيدا عن رأيي فيما يقولون - عن الديمقراطية والشرعية تارة، وعن الإستعداد كذلك لبذل الجهد والجسد تارة أخرى إذا ما تطلب الأمر. وما بين المسيرات والتوقيعات والإعلام والتويتر والفيسبوك والبيانات والوعيد، فإن الطاقة المحيطة تبدو وكأنها تتضاعف لحظة بلحظة بصورة غير طبيعية.

إلا أنني في حالة ذهنية مختلفة تماما رغما عني، ربما لأول مرة منذ يناير ٢٠١١. أشعر منذ أيام أنني منفصلا عن كل شيء بشكل متزايد، وأنني أشاهد ما يجري من الخارج كمن يشاهد أحداثا كبيرة في دولة أخرى على شاشة تليفزيونإنه خليط من الغضب بصورة الكبيرة، وقدر من الترقب والقلق، وبالتأكيد الكثير من الإجهاد والإستنفاذ. ولكنه بصورة أكبر، للأسف، الإحباط. نعم، لابد إنه كذلك.

هو الإحباط مما حدث ومما آل إليه الحال.

هو الإحباط بأن الكثيرون ضحوا لعقود بحياتهم لإصلاح أو إسقاط نظام ظالم، وها هو النظام الجديد القادم بعد ثورة - نظام يوجد به بعض أكثر من عانوا من النظام السابق - يعيد ما سبق وبشكل أكثر ضررا وسخافة. هو الإحباط من أننا قد فشلنا في تكوين جمعية تأسيسية نتوحد حولها أو في كتابة دستور نتفق عليه أو في بناء وطن ودولة يشعر الكل بأنها دولته ووطنه. هو الإحباط أننا إنتقلنا من الإتفاق على إلغاء وزارة الإعلام، إلى إلغاءها بالفعل، إلى عودتها، والآن إلى بدء البعض في الكلام عن أهمية بقاءها. هو الإحباط من عدم إصلاح مؤسسات الدولة كما كنا إتفقنا كلنا يوما. بل، هو الإحباط من أن النظام الحاكم (أو الإدارة الحالية) يحاول السيطرة كذلك على مؤسسات الدولة لصالحه بدلا من تكوين قواعد للحوكمة تحمي وتفصل الدولة ومؤسساتها بشكل كافي عن كافة الفصائل السياسية بما يحافظ على إستقلالية أساسية. هو الإحباط من تحويل منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية لتبدو أمام الرأي العام وكأن كلها أوكارا من الشر، بدلا من تنمية المجتمع المدني والدفع بإتجاه إزدهاره. هو الإحباط من زيادة ملاحقة الإعلام ومن القوانين البالية المنظمة للأمر، ولكنه الإحباط في ذات الوقت من تردي مهنية وموضوعية بعض الإعلام والإعلاميين لدى كل الأطراف. هو الإحباط من تخبط المعارضة المستمر وإعادة إختراع العجلة كل عدة أشهر، وفشل الحكومة المتزايد والتمسك المتزايد بها كذلك. هو الإحباط لتفشي الشعور بالضبابية في كل شيء، ولإستمرار الظلم بينما يُطلب العدل، ولثِقَل القلق في وقت كان المفترض فيه الأمان.

هو الإحباط من تصاعد الكراهية بيننا بشكل مخيف، وتزايد الحديث عن العنف والموت والتهديد والوعيد بشكل يومي، ورغبة المزيد والمزيد من الناس في إختفاء وتدمير كل من يخالفهم فكرا أو أسلوبا أو قناعة، أو في أستخدام القوة بأنواعها لإجباره على أن يمتثل لرغبتك أو رؤيتك. هو الإحباط من قناعة البعض بأن الأخر، أيا كانت الأطراف المقصودة، يمكن أن يختفي بين يوم وليلة بقمع أو عنف. هو الإحباط من عدم قدرتنا على أن نتفق على أنه من حق كل إنسان على أرض هذا البلاد أن يعيش حرا كريما دون أن يتدخل أحدا في حياته وإختياراته يما يتعدى الدفاع عن حرية غيره، ولأنه بالتأكيد توجد صيغة ما تاهت عنا، صيغة تسمح لنا كلنا بأن نعيش في هذه البلد وأن نبنيها بما يحقق رؤية جماعية لوطن يجمعنا جميعا، وليس لتحقيق رؤية بعضنا بصورة إجبارية على الكل. هو الإحباط من التخوين والتكفير والصوت العالي والسباب والإفتراءات والأكاذيب والعنف. وهو الإحباط من إستمرار تهديد وحجز وإصابة وموت الشاب والكبير ممن لم يريدون سوى الدفاع عن وطنهم وحريتهم بأصواتهم وبأنفسهم. وهو الإحباط والقلق من أن أخرين قد يحدث لهم نفس المصير بعد أيام.

هو الإحباط من عدم قدرتنا على بناء دولة ديمقراطية حديثة نتوحد حول أساسياتها بعد مرور أكثر من سنتين على الثورة، ومن عدم ترسيخ فهم حقيقي للتوازن بين حقوق الأغلبية والأقليات والأفراد. وهو الإحباط من فشل صانعي تلك الديمقراطية والمشاركين في بناءها، ومن الفشل المذهل للنخب السياسية في مصر على إختلافها على طول الخط. هو الإحباط من إستمرار سلبية البعض من الناس القادرين ولو في أبسط الأمور. هو الإحباط من تنامي الطائفية وعدم التسامح والتعايش، وتلذذ البعض بهذه الطائفية وسعيه وراءها، وشعور البعض بأنهم كالغرباء في وطنهم بعد ثورة لم تكن لتنجح دونهم. هو الإحباط من إنتشار الفكر الرجعي والإقصائي بأنواعهما بشكل أكبر مما تخيلت. هو الأحباط من عدم قدرتنا على الإتفاق على قوانين أساسية كقانون الجمعية الأهلية أو حرية المعلومات أو تطوير السلطة القضائية بشكل توافقي أو قانون التظاهر أو إقليم قناة السويس أو غيرها، وأن الخلاف حول كل من هذه القضايا يبدو شاسعا، وأن وجهة نظر كل من الأطراف في أي من الأمور، البسيط منها والخطير، صارت وكأنها قضية حياة أو موت له، وأننا فاشلون حتى في القدرة على الحوار. بل كذلك هو الإحباط من مضامين أغلب الحوارات والنظريات والمؤامرات والأفكار المصاحبة لها، بدءا من السياحة الإيرانية المرعبة وإنتهاءا بالباليه المخيف ومرورا باللغة الإنجليزية المدمرة وإغلاق المحال المبكر لكي تنام الناس رغما عنها في مواعيد مبكرة لأن الحكومة تدرك مصلحة الناس أفضل منهم. وكذلك الإحباط ممن يؤمنون، بما يخالف العقل والمنطق والعين والأذن، بأن كل ثوراتنا كانت مؤامرات خارجية وكأننا قطعانا يتم تسييرها حسب مزاج الغير، لأننا نظل أن نرى أنفسنا على أننا لا شيء، فاقدين للعقل أو الأهلية أو الإرادة. وهو الإحباط من تصديقنا لكل من يقول كلمة ترضينا، أو تكذيبنا لكل من يقول كلمة ليست على هوانا، وعدم سعينا وراء المعلومة بأنفسنا، وإنغماسنا وراء الشائعات والمؤامرات والخيالات الشخصية.

هو الإحباط من سياسة خارجية متخبطة، وفقدان مصر لإستقلاليتها ومكانتها وقدراتها وإحتياجنا للغير بشكل متزايد، ومن لحظات أردنا فيها أن نبدو أقوياء فظهرنا ممتلئين بالتعالي والعنجهية أمام جيراننا، وخسرنا بهما الكثير دون أن نكسب ولو القليل. هو الإحباط من كل من يقنع نفسه بأنه لم يفشل في دفع مصر إلى الأمام، ولكنه يحمل مسئولية هذا الفشل للفلول والظروف والأطراف الثالثة والمؤامرات ويقنع نفسه بأنه عليه أن يتماسك في هذه المحن. وهو الإحباط ممن لا يزالون يفعلون نفس الشيء مرة تلو الأخرى تلو الأخرى، أو لا يفعلون أي شيء مطلقا، ولكنهم يتوقعون نتائج جديدة، وهو تعريف الجنون. هو الإحباط من تزايد تسلط البشر على البشر. وهو الإحباط من الخوف على الحريات والحقوق ولقمة العيش.

وهو الغضب كذلك.

لست محايدا، ولم أدعي يوما وأني كذلك. ولكنني أشعر بالإجهاد وبالإحباط من حالنا، والذي لم يكن بالضروري مطلقا أن نصل إليه، وليس من الضروري أن نستمر فيه

ولكن لا يزال لدي أمل.

هو مرض يبدو أنني لن أشفى منه، ولا أريد أن أشفى منه، وهو الشعور المزمن بالأمل، وإيماني بالتغيير، وبحتمية إنهيار الظلم أيا كان، وبحتمية نهوض العقل، وبحتمية إنتصار العدل والحق. ولكنني، كما كنت قد كتبت منذ فترة، أشعر بأنه شعورا مُسبَبا وليس خاويا. لقد تفجرت وتدفقت ينابيعا من العزيمة والشجاعة والتضحية، ومن الفنون والإبداع والتعبير، ومن الإستماتة من أجل الحرية والكرامة والحقوق والعدالة، وسنجد كلنا طريقنا يوما ما، عاجلا أم أجلا، وبإذن الله.

ولا يزال لدي أمل

Wednesday, 12 June 2013

A few pieces of mine you might have missed

So, I haven't been updating the blog as much as before. I've mostly been writing outside of it as of late, largely on Al-Monitor. Check my page there for some of the stuff you might have missed.

Click here for the page. And, of course, thanks for being interested.