Monday, 22 July 2013

في مديح عدم التأكد والأفكار المعقدة وألوان الطيف


(١)

هذه مقالة منعزلة عن كل ما يحدث، ولكنها عن كل ما حدث، وكل ما يحدث، وكل ما سيحدث.

***

(٢)

مقدمة كان لابد من إختصارها بعض الشيء:

في بداية حياتك تلعب في بيتك وحيدا، فترسم عشوائيا وبكل حماسة بالقلم الرصاص الأسود على الصفحات الخاوية البيضاء، فلا يهمك كثيرا ما ترسم بقدر إنبهارك بالرسم كفعل في حد ذاته، وبقدر إنبهارك بقدرتك على ترك أثرا أو صنع شيئا من لا شيء. ثم تذهب إلى الحضانة فيعطونك كتيبات الرسم التي تقوم فيها بتتبع صورا مرسومة مسبقا بنفس القلم الرصاص البسيط، فتكتشف بعض مما يمكنه أن يصنع. ثم تأخذ كتب التلوين فترى الرسومات ذات الفراغات، كلها خطوطا سوداء دقيقة مرسومة على صفحات بيضاء. ثم يعطونك علبة أقلام من ثمانية ألوان دارجة، فتقوم بالتلوين بها في تلك الكتب لفترة حتى تحفظ مع الوقت مواقع الأقلام في العلبة دون الحاجة للنظر إليها، ويتمحور عقلك حول تلك الألوان الثماني وما يمكن أن تفعله بها. ثم تكتشف يوما - إنت كنت محظوظا - علبة الألوان ذات ال٢٤ قلما، وذات الأطراف السميكة والرفيعة، فيكاد عقلك ألا يصدق نفسه، وتتحسر على كل ما كان يمكن أن تقوم بتلوينه منذ سنة أو أكثر بشكل أفضل وأكثر واقعية لو كنت تعلم أن هذه الألوان والأنواع من الأقلام موجودة. ثم تكتشف علبة ألوان بها أكثر من خمسين لونا، فيزداد عدم تصديقك لما بين يديك. وتقع في غرام كل الألوان تقريبا، حتى وإن كنت تفضل بعضها على البعض، فتجربها كلها ولو مرة واحدة على الأقل لتراها بعينيك، ثم تستخدمها كلها تقريبا بعد ذلك بحسب حاجتك دون رفض قاطع لبعضها. ثم تبدأ أنت في رسم الأشكال التي تريد تلوينها، دون التقيد بكتيبات التلوين الجاهزة، فتعرف أن الإحتمالات ربما تكون لانهائية لما يمكن أن تصنعه. ثم تكتشف ألوان الماء وألوان الزيت والرصاص والفلوماستر وغيرها، وتكتشف أن نفس درجة اللون يوجد منها أنواعا مختلفة ذات خصائص وإستخدامات متعددة. ثم تأتي تلك اللحظة عندما تكتشف - ربما بمحض الصدفة - أنه يمكنك أن تخلط الألوان لتصنع لونا جديدا ربما ليس عندك منه في تلك اللحظة، أو حتى لونا جديدا لم تتخيل وجوده، فتدرك أنك قد صرت أنت في هذه اللحظة شيئا لم تتخيله قط: صانعا للألوان، وليس مجرد مستهلك لها. 

ستحتار كثيرا عند وصولك تلك المرحلة قبل أن تقرر ماذا سترسم اليوم، وعلى أي نوع من الورق، وبأي أداة للرسم، وكيف ستلون تلك الرسمة إن إخترت تلوينها، وبأي نوع من الألوان، إلخ. إلا أنها ستكون حيرة ممتعة، تأتي من معرفة أن الإحتمالات لا تنتهي.

***

ثم تمر السنوات وتكبر في العمر، وتعود إلى الوراء.

فتصير دائما مطالبا بأن تختار بين أبيض وأسود، وبين هذا أو ذلك، وفي كل الأمور، بدئا من رؤيتك للدنيا، من تحب ومن تكره، موقفك من أحداث تاريخية وأحداث حالية، أراءك الأيديولوجية وأراءك في الشعوب والفنون والكتب والشخصيات العامة والعادات والتقاليد والقوانين والسياسة والرياضة، وغيرها. وفي بعض الأمور، فهناك بجانب الأبيض والأسود بعض الألوان والأراء الصلبة المحدودة المعدة سلفا التي يمكن أن تختار منها، ولا تختار خارجها. فإن لم تستطع، فأنت إذا بالنسبة للبعض ضعيفا، غير حاسما، مراهقا فكريا، مضيعا لوقتك في نقاشات واضحة، تريد أن تختبئ بجبنك وترددك وضعفك وراء ستار من الحيادية أو الوسطية أو المغامرات الفكرية الكاذبة. وبالتأكيد، فالبعض لديه بعض المشاكل الحقيقية في إتخاذ القرارات والمواقف بالفعل.

ولكن البعض الأخر يختلف.

فمتى أصبح رفض الأبيض والأسود كلونان مجبوران علينا عيبا وضعفا وترددا؟

ولماذا ننسى كل الإحتمالات والألوان التي بينهما؟

وننسى الألوان التي بين الألوان؟

وننسى أنواع الألوان والأقلام؟

وننسى أنه يمكننا أن نصنع الألوان بأيدينا؟

أو أنه من حقنا كذلك أن نترك الورقة بيضاء إن أردنا، ولو لفترة!؟

***

(٢)

قيل لي عندما كنت صغيرا أنه من قال لا أعلم فقد أفتى”. ومنذ ذلك اليوم، لم أسمع أحدا يُفتي بتلك الفتوى تحديدا!

***

لماذا صرنا رافضين أن نقبل أننا قد نحتاج إلى وقت طويل للتفكير في بعض الأمور، وأننا قد نكتشف أن ما لدينا من معلومات وقدرات تحليلية لا يسعفانا في الوقت الحالي؟ لماذا نرفض بأننا أحيانا فريسة لطُرُق التفكير والأدوات التحليلية والقوالب والأفكار المعبأة مسبقا، والتي يعاني عقلنا دون ذنب منه للخروج منها؟ لماذا نرفض أن بعض الأسئلة ربما لا يمكن الإجابة عليها مطلقا لصعوبتها أو لعدم إمكانية الحصول على المعلومات القاطعة للإجابة عليها؟ لماذا نرفض بشكل متزايد أن نقبل أنه في جدل ما قد نجد أن كل أو أغلب وجهات النظر بها قدر من الصحة، أو أنه قد لا توجد وجهة نظر واحدة منهم تبدو صحيحة كليا لنا، وأننا ربما نحتاج إلى فكرة جديدة تماما؟ لماذا لا نقبل أن الكثير من الأمور لا يمكن التأكد منها بأكثر من ٩٩.٩٪ على أفضل الأحوال؟ ولماذا لا نقبل بأننا كلنا منحازون بشكل مُضِر أثناء بحثنا عن الحقائق والإجوبة بسبب إنتماءاتنا السياسية والإجتماعية والمجتمعية والثقافية والعمرية وغيرها، وما تعودنا عليه وتم إجبارنا على التعود عليه حتى إعتقدنا أنه أمرا طبيعيا لا بديلا عنه، مما سيؤثر سلبا على موضوعيتنا بشكل لا مهرب سهل منه، وعلى ما نريد من الحقيقة أن تكون؟ لماذا نفترض كثيرا أن كل من هو غيرنا بالتأكيد مخطئ في خياراته أو قناعاته أو تفضيلاته أو أسلوب حياته؟ لماذا لا نقبل أن عدم التأكد من أمر ما، ولو مؤقتا، قد يكون الموقف السليم عقليا ونظريا بما لدينا من معلومات وبيانات وتحليل في تلك اللحظة؟ لماذا نرفض، مثلا، أن شخصا ما مثيرا للجدل (له من يقدسه ومن يكره يوم ميلاده) قد يكون به من العظمة ومن الحقارة في نفس الوقت، دون تناقض بالضرورة؟ لماذا نرفض أن بعض الصراعات قد لا تكون بالضرورة بين خير وشر مطلقين، ولكن بين خيرين أو أكثر، أو نوعين أو درجتين من الشرور أو أكثر؟ لماذا لا يرى البعض المفارقة بأن أغلب العلماء الحقيقيين يبدؤون كلماتهم ب "أنا أعتقد"؟ لماذا نرفض في عناد أن الكثير من الإجابات بطبيعتها معقدة ومتعددة المحاور، وأن تبسيطها المبالغ فيه ليس من النجاح أو الذكاء في شيء؟

***

الإقرار بعدم المعرفة أحينا وبعدم التأكد، بعدم التخوف من طلب المزيد من الوقت والمعلومات، برؤية قدر من الصحة في الكثير من وجهات النظر المتنافسة أحيانا هم من علامات الشخص المنفتح فكريا، الشخص الذي لا يشعر بالنقص أو الحاجة المستمرة في إثبات عدم جهله عن طريق إدعاء التأكد على ذاته قبل إدعاء التأكد أمام غيره، وهو كذلك الشخص الذي لا يخاف تشكيل حقائقه وإجاباته بذاته بعيدا عن الحقائق والإجابات المعدة مسبقا، والشخص الذي يعرف بأنه يوجد أكثر بكثير في طيف الأفكار والإحتمالات والإجابات من الأبيض والأسود، بل وحتى أكثر بكثير جدا من الألوان الصلبة والأساسية التي نجدها في علبة التلوين التي ذات ال٨ أقلام التي تربينا عليها كأطفال وحفظتها عقولنا، وتعودنا مع الوقت ألا نملئ الفراغات إلا بها، وأصبح من الجرم أحيانا أن تخرج عنها.

فلنمدح للحظة هؤلاء الذين يرون كل الألوان، والذين يصنعون الألوان الجديدة إن إحتاجوا لذلك، الذين يدمنون البحث النزيه عن الحقائق بدلا من إدمان إتخاذ المواقف في أسرع وقت ممكن ليحصلون على ثقة خاوية في أنفسهم، والذين يعرفون أن إجابات "لا أعلم، لست متأكدا، أنا أعتقد، دعني أفكر، ليس الأمر بهذه البساطة" هي إجابات عظيمة تحتاج البشرية أن تستخدمها أكثر بكثير مما تفعل الآن. ولنمدح للحظة من يحطمون القوالب ولا يخافون الخروج عنها. ولنمدح للحظة من يقرر كل فترة وفترة أن يعود عقله صفحة بيضاء، يقوم بإعادة رسمها وتلوينها دون خوف.


*(هذا مقال كتبته منذ فترة ونسيته تماما، ثم تذكرته فجأة وقررت نشره اليوم.)

Friday, 19 July 2013

What Complicates Reconciling With The Brotherhood In Egypt

Supporters Of Morsi In Rab'aa Square

This is not an exhaustive piece. Rather, this is mainly an appendix to a piece I've just published in Al-Monitor, debating the options the Brotherhood could pursue now, and the situation they're in.

There is a lot of talk about whether or not reconciliation in Egypt can actually take place, and the talk understandably focuses largely on whether or not the current administration (with the military at its heart, or head, depending on how you see it) would reconcile with the Brotherhood if there is such a mood on the other side as well. Critics argue that while the administration might be sounding many correct gestures and claims (including regularly reassuring inclusion and reconciliation while also allegedly offering cabinet positions to Brotherhood members), there are arrests and seemingly a legal witch hunt against the Brotherhood and allied Islamists. The critics further argue that if the current leadership in Egypt somehow decided behind the scenes that enough was enough, things would just cool down, the witch hunt would stop, the media in Egypt would tone down its obviously biased (read: vengeful) tone. But that perhaps misses at least some the complexity of the situation.

What is important to note is that each of the current anti-Morsi groups seemingly has its own vendetta. The judiciary has had a long fight against Morsi and the Brotherhood. The prosecutorial corps in particular has been up in arms against Morsi's handpicked prosecutor-general and what his reign entailed. The private media has been furious (other than due to ideological enmity) from intimidations by Morsi and the Brotherhood against them, including the onslaught of "Insulting The President" and "Contempt Of Religion" charges as well as the regular siege of the media production city by Islamists, among others. The police is not exactly a friendly entity to the Brotherhood and Morsi either. The liberal and leftist parties, which mostly backed Morsi in his run against the secular opponent Ahmed Shafiq who was seen as close to the former regime, now speak of Morsi as they speak of Mubarak, if not worse; and of the MB as they speak of the NDP, if not worse. There are even those in the state bureaucracy who resented what they saw as the "Brotherhoodisation" of the state, namely the installation of Brotherhood members in key positions, perhaps regardless of qualification. Then there is the military of course. But perhaps most importantly, the degree of popular outrage against the Brotherhood is apparently such that, if the reports some share are accurate, the grassroots anger and exclusionary sentiment towards the Brotherhood by even many normal people has become quite substantial (yesterday, a non-Cairene was claiming to me that Brotherhood-owned shops in his town were being attacked).

My point here is that there are many who have their own separate scores to settle. So, even if the country's "leadership" did decide to reconcile, it's not necessarily a given the others would simply play along. Reconciliation in Egypt would be a long, difficult and multi-layered process.


Monday, 15 July 2013

A Note On Recent Western Punditry On Egypt


Morsi proclaiming that one year was enough for his patience
 with the media and opposing figures

There is certainly a lot of writing coming out on Egypt these days from around the world. A lot of it is brilliant, thought-provoking work, and some of it often provides an outside perspective that those who remain inside the country or are entirely focused on it could sometimes lose. But, on the other hand, a substantial portion of it suffers.

More specifically, there are often way too many generalisations, rushing to sensationalist conclusions, much over-simplification, too many attempts at comparing Egypt to Pakistan or other countries, at times a desire for content-destroying political correctness (that we all suffer from at times), generalist knowledge by some commentators of the Egyptian situation that lacks some modicum of fuller cognition of its details and complications, and more. Egypt appears to increasingly be its own complex experiment and model, and even many of us who literally do nothing but write on Egypt find many of its developments to be baffling. Egypt is not a straightforward country by any means possible. 

Example of such writing? Almost all the "End Of Political Islam"-proclaiming articles. But my main concern here is the increasing apologist, politically correct and somewhat whitewashing tone recently apparent in writings on Morsi and the Brotherhood. I have consistently, and up to June 30th, argued that reconciliation was the only path for Egypt, and saw that it was best - all things considered - that Morsi stayed in power, rebuilt his legitimacy and created a new national political contract everyone could accept. I still believe in reconciliation and inclusiveness. And there is indeed much to criticise about the state of Egypt right now. Such list includes: the unbalanced and unprofessional approach of the media to the current situation and the suspension of all pro-Morsi outlets. Morsi’s continued detention is a cause for deep concern. The list also includes the ultra-polarised and often vile political environment and discourse that exists, coupled with a mutual complete demonisation of the other. It also includes the apparent witch hunt against the Brotherhood and the dwindling reconciliation and inclusiveness prospects. Some of the details of Military's roadmap come to mind as well. The actions of the NSF, now and before, surely make an appearance on the list. The tragic loss of lives from the Republican Guard debacle is unforgettable. And more. And for many, the resilience of the Brotherhood and its few remaining allies is quite impressive to be sure.

But that does not mean that Morsi’s presidency should suddenly be whitewashed or his (and the Brotherhood's) mistakes or transgressions be downsized. As far as I'm concerned and as I enumerated in more detail recently, I believe (as mindful of my biases, and of the challenges posed by the deep state against Morsi, as I can be) Morsi had swiftly stabbed his claims to “legitimacy” since November when he issued the disastrous decree, that he had no power to issue in the first place, putting himself entirely above the law and the existing constitutional framework (he only rescinded it after having achieved its purposes, and while keeping all effects obtained through it.) Morsi followed that by a reckless detonation of the constitution-drafting process and the denial of Egypt of the chance to have a  respected political framework everyone can unite around (Egypt's Opposition did not recognise the new constitution, at least as it stood, and with some fair reason). Since then, and instead of attempting to rebuild his legitimacy, Morsi and the Brotherhood embarked on an aggressive power grab that even alienated his former Islamist allies and turned his former revolutionary coalition against him, violated the separation of powers, used intimidation (legal and beyond, mostly through allies) against the private media and the opposition, created a deformed and widely-denounced MB-dominated ersatz full legislative entity in the Shura Council, among many other things (click her for a longer, but definitely incomplete, list). His last act of power before June 30th was a two-and-a-half hour speech in which he was bluntly promising that "one year was enough" of his patience with the supposed transgressions by opposing figures and the media (even cartoonishly naming names on air) and that he was planning firm measures against them, which was followed the  day after by preliminary measures including removing opposition channels from the management board overseeing the (media) free zone, putting an opposition TV network owner on a no-fly list all of a sudden for alleged tax problems that just happened to matter before June 30, and sacking the head of a state-owned conference centre the opposition used. All of this is setting aside utter ineptitude in managing the state, a unanimously denounced government (even by the Brotherhood and the FJP!), hate speech and incitement used by his supporting media (in some ways being channeled now by a somewhat vengeful private media), and more. I genuinely believe that Morsi's legitimacy by the time of the June 30 uprising (and even, more controversially, much of that of the constitutional framework he spearheaded)  should at least not be treated as a firm given in any debate. Some will come back with arguments along the lines of "the deep state and the politicised judiciary required some unorthodox responses", and they'd be substantially mistaken. It essentially required maintaining the unity of the revolutionary front along sensible lines and compromises, the same unity that got Morsi barely elected. 

Commentators have all the right in the world to be strong in the criticism and worry of what is happening in Egypt right now, including the role of the army in this entire process, the potential implications of  the suspension of a constitutional framework, the possible return of much of the former regime and the police state, and the vengefulness of much of the state and media against Morsi and the MB. But downsizing what Morsi has done in his year in power, the destructive impact his presidency has had on Egypt's transition towards a proper political and constitutional base (and on the condition of Egypt itself), the derailment of the January Revolution and its division, all this downsizing has a dangerous effect on the fullness and value of the current conversation and debate. The pro-Morsi rally can be admired for its steadfastness, patience, unity and even courage. But the claims sounded from its stage of defending democracy, legitimacy and protecting the January Revolution have a difficult ttime registering. 

Of course, feel free to disagree, and I certainly do not claim to have ownership of the truth.