Monday, 9 September 2013

الإصلاحي وعدو الدين والخائن



١- بعد ثورة يناير ومع الحماسة التي صاحبت الحراك الثوري وحالة الغضب من النظام المستبد الأسبق والرغبة في تطهير أثاره وبعد العنف والقتل الذي قام بهما أثناء أحداث الثورة والأحداث التي تلتها، فقد سادت حالة من الإستنفار، وظهرت حدة في الأسلوب لدى بعض من رءاهم الناس ممثلين للثورة. فكان هناك إتهامات من بعضهم للغير بالخيانة وعدم الثورية و”الإصلاحية” و”الفلولية” والخنوع والجبن وخيانة دم الشهداء وأنك “أمنجي” إن لم تتفق مع بعض من الطرح والحراك السائد أنذاك، وأدى ذلك للأسف إلى نفور الكثير من الناس من بعض النشطاء والوجوه العامة ومن بعض مشاهد وجوانب الحراك الثوري كذلك. وكنت قد إنتقدت ذلك الأمر أنذاك، كشخص شارك في الثورة وأمن (ولا يزال يؤمن) بها، وأكدت على أنه (كان أنذاك) من الضروري على كل من يؤمن بالثورة ويريد الدفاع عنها أن يتفهم مخاوف الأخرين، ويتقبل وجهات النظر المخالفة عن نية صادقة أو تفهم مصدر ظهورها إن لم يتقبلها، وأن يرتقي بأسلوبه وعمله السياسي ليحاول أن يكسب المزيد من التأييد للثورة وليس خسارة الناس. وظهرت حتى أنذاك ما أطلق عليه البعض "فقاعة تويتر"، والتي عنت أن البعض من مؤيدي الثورة إعتقد أن السائد على تويتر من أراء ظاهرة يعبد عن نبض الشارع المصري بشكل عام. وإنفجرت هذه الفقاعة مع الإنتخابات ومع الوقت.

٢- ثم بدأ التيار الإسلامي في الصعود بعد إنتخابات البرلمان وفوز مرسي، وصُدم البعض ممن إستهانوا به من حجم التعاطف الذي كان يحوز عليه أنذاك ومن حجم فوره في الإنتخابات. وتصاعدت لدى الكثيرين بداخل ذلك التيار في نفس الوقت (وبخاصة في الخطاب الداخلي لهذا التيار) حدة إنتقاد الليبراليين والعلمانيين واليساريين، والتكفير، والسخرية من الأخرين والإستهانة بهم، والإتهامات ب"الفلولية" أو معاداة الدين، ثم الإنقلاب على القوى السياسية والثورية. وتم صياغة رؤية إنتشرت بشكل ليس بقليل سواء لدى قيادات الإخوان وحلفائهم أو لدى مؤيدين وأعضاء الإخوان كذلك بأن كل تلك القوى لا تعبر عن مساحة شعبية حقيقية، وأن أغلب المسيرات الرافضة لمرسي والإخوان كانت من "النصارى وجنود الأمن المركزي والفلول"، وأن الإسلاميين لا يمكن لأحد أن يسقطهم أو يحشد مثلهم، وأن بقية القوى والرموز السياسية إلى زوال محتوم، وأن الأغلبية مع مرسي والإسلاميين بشكل لا يقبل الشك، وأن مؤسسات الدولة تحت السيطرة، وأن "الغالبية الساحقة من الشعب" معهم، وأن السماء تدعمهم. وإنتشر ذلك الخطاب لدى القيادات والقواعد والإعلام المؤيد، ورفضت ما بدت وأنها غالبية من المؤيدين والقيادات كل طرح مخالف أو نصح يأتي من الداخل أو من الخارج لأنهم رأوا أنه "كلام فاضي". ومع تضخم تلك الفقاعة وإخفائها لحالة الغضب العارم خارجها (وبخاصة أن غالبية المواطنين ليس لديهم أي إنتماءات سياسية ثابتة بالأساس وشكلوا الكثير من الكتلة التي إنتخبت الإسلاميين في البرلمان والرئاسة بدافع التجربة)، إنفجرت الفقاعة مع أكبر خروج شعبي في تاريخ مصر، وسقط الإخوان وحلفائهم.

٣- ثم جاءت ٣٠ يونيو، وخرجت أنا كمواطن فيها كما خرجت في يناير وفي نوفمبر/ديسمبر. وبعد مشهد إيجابي إمتلئ بالشعارات الجيدة والتقدمية، بدأت حالة من التعصب القومي والأمني لدى البعض، مدفوعة بشكل مفهوم مما إقترفه الإخوان أثناء فترة حكمهم، وشعور الكثيرين بأن بلدهم كان يتم إختطافها وإضاعتها إداريا وسياسيا وإقتصاديا، وتحويلها لشيء أخر يرفضونه، بالإضافة إلى بعض الشحن الإعلامي. إلا أنه الآن فلا يوجد، وبشكل متزايد، تقبل لنقد للقيادة السياسية أو للرؤى السائدة في الإعلام أو للأجهزة الأمنية، والإنتقادات والوصف بالخيانة والعمالة وعدم الوطنية وتعريض أمن البلاد للخطر جاهز لكل من يختلف ولو قليلا عن السرد والطرح السائد، وهناك حالة من الإستهانة بحجم قاعدة الدعم المتبقية للإخوان والتيار الإسلامي عامة وقدراتها على التماسك والأداء الإنتخابي، ومحاولة للإعتقاد أن الحلول الأمنية يمكنها أن تحسم كل جوانب الأمر، وأن ما فشل في الماضي أكثر من مرة يمكنه أن ينجح اليوم. كما أن البعض فيما يبدو بدأ سريعا في الإنهماك في معارك وتصفية حسابات مع نشطاء وشخصيات عامة وسياسية هو على خلاف معها. كما أن البعض في القاعدة الشعبية ل ٣٠ يونيو كذلك بدأ يصيبه التعصب، وعدم الرغبة في سماع أي شيء يخالف ما يريد سماعه، وزيادة وتيرة العنف في الفترة الماضية تقوم بشحن البعض نفسيا بما يجعل من الصعب حدوث مناقشات مكتملة الموضوعية في الإعلام أو بين الناس حول المشهد الراهن وتفاصيله في أي شيء. وهناك بوادر فقاعة جديدة تبدأ في التشكل.

الخاسر في نهاية المطاف هو من يرى ذاته صاحب قضية، سواء من ذكرتهم أم غيرهم. فرفضه لكل الأطروحات المخالفة ولو جزئيا أو للنقد وتعصبه وثقته المبالغ بها في رأيه ورؤيته سيعمونه عاجلا أم أجلا عن حقيقة ما قد تكون تحدث بالفعل وتخالف رؤيته هو، وستصطدم تلك الحقيقة في وجهه وتهوى به وبقضيته. حدث ذلك مع مبارك ومن حوله، حدث ذلك بشكل ما مع التيار المدني والثوري بعد يناير، وحدث ذلك مع الإخوان والتيار الإسلامي. والقاعدة التاريخية العامة هي أن تكرار نفس الأمور والمدخلات والإختيارات يؤدي إلى تكرار نفس النتائج.

الطريق إلى الحفاظ على ما تبقى من ٢٥ يناير والروح الأساسية المدنية والرافضة للإستبداد التي خرجت في ٣٠ يونيو هو ألا نكرر ما أسقط من سبقوا. الأمان والدفاع عن الأمن بشراسة وحسم وحزم يمكن أن يقترنان بدولة الحريات والحقوق والديمقراطية والشفافية، وأقوى دول العالم وأكثرهها إستقرار هي التي صنعت تلك المعادلة المنطقية. 

Sunday, 8 September 2013

حول ما يسمى ب "مؤامرة ثورات الربيع العربي"

من الظواهر التي تتوسع بشكل واضح في الفترة الماضية هي إنتشار نظرية المؤامرة في تناول العديد من المشاهد والأحداث الحالية، وإفتراض وجود بالضرورة قوى خفية ما تتحكم في كل الخيوط في كل الأمور بشكل كامل من وراء الستار، وأننا وغيرنا من العرب دائما لا حول لنا ولا قوة. ويتم في نفس الإطار التعامل مع العديد من الإستنتاجات والنظريات الشخصية على أنها واقع مثبت لا يقبل الجدل، ومع تكرار الأمر بشكل مستمر، تتحول النظرية من تلقاء ذاتها إلى حقيقة.

وإحدى أحدث تلك النظريات هي نظرية أن ثورات وإنتفاضات الربيع العربي كلها كانت “مؤامرة” من الغرب وغير الغرب لتدمير وتفتيت وإضعاف المنطقة، وأنها لم تكن ولو في جزء منها إنتفاضات شعبية وعفوية حقيقية ممن فاض بهم الكيل ضد واقع إحتاج ولو لبعض التغيير. وقراءتي الشخصية المتواضعة تجد أن هذه الفكرة تنافي المنطق على أكثر من صعيد. ولا ينفي أحد أن مصر وسائر الدول العربية (مثلها مثل كل الدول العالم، مع كون الشرق الأوسط أكثر حدة وتعقيدا أهمية في بعض الأمور بالطبع) هي مراكز لأطماع ومصالح دولية وإقليمية متصارعة ومتناقضة. ولكن المشكلة في أطروحة هذه المؤامرة بالتحديد هو أن هذه المؤامرة الدولية، إن وجدت بالشكل الذي يصفه البعض، تناقض بشكل واضح ما يوجد عليه توافق واسع أنها مصالح الغرب الإستراتيجية والراسخة منذ عقود.

فالمتعارف عليه أن مصالح الغرب والمجتمع الدولي تتمركز حول إستقرار المنطقة، إستمرار وإستقرار تدفق النفط والغاز وأسعارهما، السيطرة على الإسلام السياسي الذي كان يصدر خطابا كله تحديا ومعاداة للغرب وإسرائيل (حتى حكم ذلك التيار)، ومنع ظهور تعقيدات جيوسياسية مع محاربة النفوذ الإيراني وإحتواد النفوذ التركي، منع إنهيار الإقتصادات العربية أو ضعفها الشديد بما يدفع إلى التشدد الذي يصنع الإرهاب أو فوضى لا يمكن السيطرة عليها أو إغلاق أسواق للصادرات الأجنبية أو بما يؤدي إلى زيادة الهجرة الغير شرعية - مع وجود درجة من النمو تسمح بإنهماك الدول العربية في شئونها الداخلية وفي فتح المزيد من الأسواق لتصدير السلع الغربية، إستقرار الأمور بقناة السويس، الحفاظ على أمن إسرائيل، ومحاولة إحتواء القوى العسكرية العربية بما لا يجعل منها تهديدا حقيقيا، إلخ..

والحقيقة هو أن الوضع السائد حتى ٢٠١٠ كان يحقق ذلك بشكل كبير. فنظام مبارك كان على علاقات راسخة مع الولايات المتحدة وكان حليفا مفيدا للغاية للغرب، ونظام القذافي كان يقترب يوما بعد يوم من الغرب في سنواته الأخيرة، والنظام السابق في اليمن كان على علاقة جيدة كذلك بالبيت الأبيض بالرغم من التوتر في إطار الحرب على القاعدة في اليمن، والعلاقات الخليجية-الأمريكية كانت مستقرة والنظم الخليجية كانت تقف كحائط صد ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتدفق مصادر الطاقة كان مستمرا، والنظام السوري إنهمك في الشأن الداخلي وبردت حدوده مع إسرائيل لسنوات وسنوات (ولكن ظلت علاقاته بإيران وحزب الله تحديدا مصادر قلق للغرب)، والقواعد الأمريكية في المنطقة كانت مستمرة كذلك، والنظام السابق في تونس كان كذلك قريبا من الغرب ويحارب الإسلام السياسي، وما إلى غير ذلك. ودول المنطقة ككل كانت تقوم بإصلاحات محدودة كل فترة وفترة لإعطاء شكل التحرك في تجاه الديمقراطية والحريات، بما يعطي للإدارة الأمريكية ما يشبه إنتصارات سياسية شكلية كذلك. أما الأوضاع التي سادت وتسود منذ إندلاع ما سمي بالربيع العربي تمثل كابوسا سياسيا وجيوسياسيا للغرب وللولايات المتحدة، بكل المقاييس، بل هو يكاد يكون كابوس مختلف كل أسبوع، كما أن حالة الفوضى والسيولة الشديدة في المنطقة تجعل التخطيط السياسي والإقتصادي البعيد المدى للغرب في كل ما يتعلق بالمنطقة أمر مستحيل، وتقييم أغلب الناخبين في الدول الغربية (وبخاصة أمريكا) فيما يتعلق بأداء حكوماتهم فيما يخص المنطقة العربية من ٢٠١١ هو تقييم سلبي في مجمله.

بالإضافة إلى ذلك، فإن رؤية أن كل ما حدث من إنتفاضات وثورات أنها كانت مؤامرة من الخارج أو من الإسلام السياسي في الداخل هو محالفة لواقع شاهدناه وعايشناه، من خروج واسع من كافة الطيف السياسي وتردد مجموعات الإسلام السياسي بشكل واضح في المشاركة في بداية تلك التحركات، حتى وإن إفترضنا وجود تشجيع خارجي تبع ذلك في بعض الحالات من بعض الجهات الغير غربية بالتحديد. وفي حالة مصر، مثلا، فثورة يناير حملت شعارات ومطالب لا يختلف حولها أثنان، وكانت شعارات ومبادئ ومطالب مدنية وتقدمية بشكل واضح ومبنية على واقع كان بالفعل لابد من تغييره. ولكن تخبط المرحلية الإنتقالية سببه فشل القوى السياسية المدنية واليمينية المحافظة والشبابية الثورية وتصارعهم، وفشل القيادة العسكرية الحاكمة أنذاك، وحدث كل ذلك بتفاصيله أمام مسمعنا وبصرنا، وكان يمكن إنقاذه وإصلاحه. أما محاولة إختطاف الإخوان للحكم في مصر والإستئثار به سببه إغراء قوة التنظيم وضعف القوى المدنية بالإضافة إلى الأيديولوجية المسيطرة على قيادات الإخوان. وكل الإتهامات للبعض بالعمالة والتمويل من الخارج لم يثبت لها بعد أكثر من سنتين ونصف أي دليل حتى الآن، حتى بعد التحقيقات الرسمية، وبالتالي تظل كلها إدعاءات وإتهامات عليها أن تقف حتى يظهر لها دليل أخر أو أن يتم تقبل أنها ظنون وشكوك بالمقام الأول.

كون أن مصر والدول العربية تمر بالتخبط والأزمات والتحديات هو إنعكاس لواقعها الداخلي قبل أن يكون كذلك إنعكاس لأي مؤامرات محتملة، وكون أن تلك الثورات أو الإنتفاضات فشلت حتى الآن بشكل كبير في تحقيق أهدافها الرسمية النبيلة والتقدمية أو تم إختطافها وإفسادها من قبل فصيل أو أكثر هو إنعكاس لفشل القوى السياسية والمؤثرة بشكل مباشر قبل أن يكون إنعكاسا لأي شيء أخر.

هناك بالفعل مصالح للغير في بلادنا، ولكننا لسنا دمى، وثورة يناير تظل نقطة مضيئة في تاريخ مصر حتى وإن حاول البعض إختطافها أو حاول البعض تشويهها ومن إرتبط بها ليعيد عقارب الساعة إلى الوراء بشكل كامل. طبعا الطرح هنا به بعض من التبسيط للأمور والإختصار بما قد يضع جانبا بعض التعقيدات المعروفة، ولهذا مجال أخر للحديث.