١- بعد ثورة يناير ومع الحماسة التي صاحبت الحراك الثوري وحالة الغضب من النظام المستبد الأسبق والرغبة في تطهير أثاره وبعد العنف والقتل الذي قام بهما أثناء أحداث الثورة والأحداث التي تلتها، فقد سادت حالة من الإستنفار، وظهرت حدة في الأسلوب لدى بعض من رءاهم الناس ممثلين للثورة. فكان هناك إتهامات من بعضهم للغير بالخيانة وعدم الثورية و”الإصلاحية” و”الفلولية” والخنوع والجبن وخيانة دم الشهداء وأنك “أمنجي” إن لم تتفق مع بعض من الطرح والحراك السائد أنذاك، وأدى ذلك للأسف إلى نفور الكثير من الناس من بعض النشطاء والوجوه العامة ومن بعض مشاهد وجوانب الحراك الثوري كذلك. وكنت قد إنتقدت ذلك الأمر أنذاك، كشخص شارك في الثورة وأمن (ولا يزال يؤمن) بها، وأكدت على أنه (كان أنذاك) من الضروري على كل من يؤمن بالثورة ويريد الدفاع عنها أن يتفهم مخاوف الأخرين، ويتقبل وجهات النظر المخالفة عن نية صادقة أو تفهم مصدر ظهورها إن لم يتقبلها، وأن يرتقي بأسلوبه وعمله السياسي ليحاول أن يكسب المزيد من التأييد للثورة وليس خسارة الناس. وظهرت حتى أنذاك ما أطلق عليه البعض "فقاعة تويتر"، والتي عنت أن البعض من مؤيدي الثورة إعتقد أن السائد على تويتر من أراء ظاهرة يعبد عن نبض الشارع المصري بشكل عام. وإنفجرت هذه الفقاعة مع الإنتخابات ومع الوقت.
٢- ثم بدأ التيار الإسلامي في الصعود بعد إنتخابات البرلمان وفوز مرسي، وصُدم البعض ممن إستهانوا به من حجم التعاطف الذي كان يحوز عليه أنذاك ومن حجم فوره في الإنتخابات. وتصاعدت لدى الكثيرين بداخل ذلك التيار في نفس الوقت (وبخاصة في الخطاب الداخلي لهذا التيار) حدة إنتقاد الليبراليين والعلمانيين واليساريين، والتكفير، والسخرية من الأخرين والإستهانة بهم، والإتهامات ب"الفلولية" أو معاداة الدين، ثم الإنقلاب على القوى السياسية والثورية. وتم صياغة رؤية إنتشرت بشكل ليس بقليل سواء لدى قيادات الإخوان وحلفائهم أو لدى مؤيدين وأعضاء الإخوان كذلك بأن كل تلك القوى لا تعبر عن مساحة شعبية حقيقية، وأن أغلب المسيرات الرافضة لمرسي والإخوان كانت من "النصارى وجنود الأمن المركزي والفلول"، وأن الإسلاميين لا يمكن لأحد أن يسقطهم أو يحشد مثلهم، وأن بقية القوى والرموز السياسية إلى زوال محتوم، وأن الأغلبية مع مرسي والإسلاميين بشكل لا يقبل الشك، وأن مؤسسات الدولة تحت السيطرة، وأن "الغالبية الساحقة من الشعب" معهم، وأن السماء تدعمهم. وإنتشر ذلك الخطاب لدى القيادات والقواعد والإعلام المؤيد، ورفضت ما بدت وأنها غالبية من المؤيدين والقيادات كل طرح مخالف أو نصح يأتي من الداخل أو من الخارج لأنهم رأوا أنه "كلام فاضي". ومع تضخم تلك الفقاعة وإخفائها لحالة الغضب العارم خارجها (وبخاصة أن غالبية المواطنين ليس لديهم أي إنتماءات سياسية ثابتة بالأساس وشكلوا الكثير من الكتلة التي إنتخبت الإسلاميين في البرلمان والرئاسة بدافع التجربة)، إنفجرت الفقاعة مع أكبر خروج شعبي في تاريخ مصر، وسقط الإخوان وحلفائهم.
٣- ثم جاءت ٣٠ يونيو، وخرجت أنا كمواطن فيها كما خرجت في يناير وفي نوفمبر/ديسمبر. وبعد مشهد إيجابي إمتلئ بالشعارات الجيدة والتقدمية، بدأت حالة من التعصب القومي والأمني لدى البعض، مدفوعة بشكل مفهوم مما إقترفه الإخوان أثناء فترة حكمهم، وشعور الكثيرين بأن بلدهم كان يتم إختطافها وإضاعتها إداريا وسياسيا وإقتصاديا، وتحويلها لشيء أخر يرفضونه، بالإضافة إلى بعض الشحن الإعلامي. إلا أنه الآن فلا يوجد، وبشكل متزايد، تقبل لنقد للقيادة السياسية أو للرؤى السائدة في الإعلام أو للأجهزة الأمنية، والإنتقادات والوصف بالخيانة والعمالة وعدم الوطنية وتعريض أمن البلاد للخطر جاهز لكل من يختلف ولو قليلا عن السرد والطرح السائد، وهناك حالة من الإستهانة بحجم قاعدة الدعم المتبقية للإخوان والتيار الإسلامي عامة وقدراتها على التماسك والأداء الإنتخابي، ومحاولة للإعتقاد أن الحلول الأمنية يمكنها أن تحسم كل جوانب الأمر، وأن ما فشل في الماضي أكثر من مرة يمكنه أن ينجح اليوم. كما أن البعض فيما يبدو بدأ سريعا في الإنهماك في معارك وتصفية حسابات مع نشطاء وشخصيات عامة وسياسية هو على خلاف معها. كما أن البعض في القاعدة الشعبية ل ٣٠ يونيو كذلك بدأ يصيبه التعصب، وعدم الرغبة في سماع أي شيء يخالف ما يريد سماعه، وزيادة وتيرة العنف في الفترة الماضية تقوم بشحن البعض نفسيا بما يجعل من الصعب حدوث مناقشات مكتملة الموضوعية في الإعلام أو بين الناس حول المشهد الراهن وتفاصيله في أي شيء. وهناك بوادر فقاعة جديدة تبدأ في التشكل.
الخاسر في نهاية المطاف هو من يرى ذاته صاحب قضية، سواء من ذكرتهم أم غيرهم. فرفضه لكل الأطروحات المخالفة ولو جزئيا أو للنقد وتعصبه وثقته المبالغ بها في رأيه ورؤيته سيعمونه عاجلا أم أجلا عن حقيقة ما قد تكون تحدث بالفعل وتخالف رؤيته هو، وستصطدم تلك الحقيقة في وجهه وتهوى به وبقضيته. حدث ذلك مع مبارك ومن حوله، حدث ذلك بشكل ما مع التيار المدني والثوري بعد يناير، وحدث ذلك مع الإخوان والتيار الإسلامي. والقاعدة التاريخية العامة هي أن تكرار نفس الأمور والمدخلات والإختيارات يؤدي إلى تكرار نفس النتائج.
الطريق إلى الحفاظ على ما تبقى من ٢٥ يناير والروح الأساسية المدنية والرافضة للإستبداد التي خرجت في ٣٠ يونيو هو ألا نكرر ما أسقط من سبقوا. الأمان والدفاع عن الأمن بشراسة وحسم وحزم يمكن أن يقترنان بدولة الحريات والحقوق والديمقراطية والشفافية، وأقوى دول العالم وأكثرهها إستقرار هي التي صنعت تلك المعادلة المنطقية.