من الظواهر التي تتوسع بشكل واضح في الفترة الماضية هي إنتشار نظرية المؤامرة في تناول العديد من المشاهد والأحداث الحالية، وإفتراض وجود بالضرورة قوى خفية ما تتحكم في كل الخيوط في كل الأمور بشكل كامل من وراء الستار، وأننا وغيرنا من العرب دائما لا حول لنا ولا قوة. ويتم في نفس الإطار التعامل مع العديد من الإستنتاجات والنظريات الشخصية على أنها واقع مثبت لا يقبل الجدل، ومع تكرار الأمر بشكل مستمر، تتحول النظرية من تلقاء ذاتها إلى حقيقة.
وإحدى أحدث تلك النظريات هي نظرية أن ثورات وإنتفاضات الربيع العربي كلها كانت “مؤامرة” من الغرب وغير الغرب لتدمير وتفتيت وإضعاف المنطقة، وأنها لم تكن ولو في جزء منها إنتفاضات شعبية وعفوية حقيقية ممن فاض بهم الكيل ضد واقع إحتاج ولو لبعض التغيير. وقراءتي الشخصية المتواضعة تجد أن هذه الفكرة تنافي المنطق على أكثر من صعيد. ولا ينفي أحد أن مصر وسائر الدول العربية (مثلها مثل كل الدول العالم، مع كون الشرق الأوسط أكثر حدة وتعقيدا أهمية في بعض الأمور بالطبع) هي مراكز لأطماع ومصالح دولية وإقليمية متصارعة ومتناقضة. ولكن المشكلة في أطروحة هذه المؤامرة بالتحديد هو أن هذه المؤامرة الدولية، إن وجدت بالشكل الذي يصفه البعض، تناقض بشكل واضح ما يوجد عليه توافق واسع أنها مصالح الغرب الإستراتيجية والراسخة منذ عقود.
فالمتعارف عليه أن مصالح الغرب والمجتمع الدولي تتمركز حول إستقرار المنطقة، إستمرار وإستقرار تدفق النفط والغاز وأسعارهما، السيطرة على الإسلام السياسي الذي كان يصدر خطابا كله تحديا ومعاداة للغرب وإسرائيل (حتى حكم ذلك التيار)، ومنع ظهور تعقيدات جيوسياسية مع محاربة النفوذ الإيراني وإحتواد النفوذ التركي، منع إنهيار الإقتصادات العربية أو ضعفها الشديد بما يدفع إلى التشدد الذي يصنع الإرهاب أو فوضى لا يمكن السيطرة عليها أو إغلاق أسواق للصادرات الأجنبية أو بما يؤدي إلى زيادة الهجرة الغير شرعية - مع وجود درجة من النمو تسمح بإنهماك الدول العربية في شئونها الداخلية وفي فتح المزيد من الأسواق لتصدير السلع الغربية، إستقرار الأمور بقناة السويس، الحفاظ على أمن إسرائيل، ومحاولة إحتواء القوى العسكرية العربية بما لا يجعل منها تهديدا حقيقيا، إلخ..
والحقيقة هو أن الوضع السائد حتى ٢٠١٠ كان يحقق ذلك بشكل كبير. فنظام مبارك كان على علاقات راسخة مع الولايات المتحدة وكان حليفا مفيدا للغاية للغرب، ونظام القذافي كان يقترب يوما بعد يوم من الغرب في سنواته الأخيرة، والنظام السابق في اليمن كان على علاقة جيدة كذلك بالبيت الأبيض بالرغم من التوتر في إطار الحرب على القاعدة في اليمن، والعلاقات الخليجية-الأمريكية كانت مستقرة والنظم الخليجية كانت تقف كحائط صد ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتدفق مصادر الطاقة كان مستمرا، والنظام السوري إنهمك في الشأن الداخلي وبردت حدوده مع إسرائيل لسنوات وسنوات (ولكن ظلت علاقاته بإيران وحزب الله تحديدا مصادر قلق للغرب)، والقواعد الأمريكية في المنطقة كانت مستمرة كذلك، والنظام السابق في تونس كان كذلك قريبا من الغرب ويحارب الإسلام السياسي، وما إلى غير ذلك. ودول المنطقة ككل كانت تقوم بإصلاحات محدودة كل فترة وفترة لإعطاء شكل التحرك في تجاه الديمقراطية والحريات، بما يعطي للإدارة الأمريكية ما يشبه إنتصارات سياسية شكلية كذلك. أما الأوضاع التي سادت وتسود منذ إندلاع ما سمي بالربيع العربي تمثل كابوسا سياسيا وجيوسياسيا للغرب وللولايات المتحدة، بكل المقاييس، بل هو يكاد يكون كابوس مختلف كل أسبوع، كما أن حالة الفوضى والسيولة الشديدة في المنطقة تجعل التخطيط السياسي والإقتصادي البعيد المدى للغرب في كل ما يتعلق بالمنطقة أمر مستحيل، وتقييم أغلب الناخبين في الدول الغربية (وبخاصة أمريكا) فيما يتعلق بأداء حكوماتهم فيما يخص المنطقة العربية من ٢٠١١ هو تقييم سلبي في مجمله.
بالإضافة إلى ذلك، فإن رؤية أن كل ما حدث من إنتفاضات وثورات أنها كانت مؤامرة من الخارج أو من الإسلام السياسي في الداخل هو محالفة لواقع شاهدناه وعايشناه، من خروج واسع من كافة الطيف السياسي وتردد مجموعات الإسلام السياسي بشكل واضح في المشاركة في بداية تلك التحركات، حتى وإن إفترضنا وجود تشجيع خارجي تبع ذلك في بعض الحالات من بعض الجهات الغير غربية بالتحديد. وفي حالة مصر، مثلا، فثورة يناير حملت شعارات ومطالب لا يختلف حولها أثنان، وكانت شعارات ومبادئ ومطالب مدنية وتقدمية بشكل واضح ومبنية على واقع كان بالفعل لابد من تغييره. ولكن تخبط المرحلية الإنتقالية سببه فشل القوى السياسية المدنية واليمينية المحافظة والشبابية الثورية وتصارعهم، وفشل القيادة العسكرية الحاكمة أنذاك، وحدث كل ذلك بتفاصيله أمام مسمعنا وبصرنا، وكان يمكن إنقاذه وإصلاحه. أما محاولة إختطاف الإخوان للحكم في مصر والإستئثار به سببه إغراء قوة التنظيم وضعف القوى المدنية بالإضافة إلى الأيديولوجية المسيطرة على قيادات الإخوان. وكل الإتهامات للبعض بالعمالة والتمويل من الخارج لم يثبت لها بعد أكثر من سنتين ونصف أي دليل حتى الآن، حتى بعد التحقيقات الرسمية، وبالتالي تظل كلها إدعاءات وإتهامات عليها أن تقف حتى يظهر لها دليل أخر أو أن يتم تقبل أنها ظنون وشكوك بالمقام الأول.
كون أن مصر والدول العربية تمر بالتخبط والأزمات والتحديات هو إنعكاس لواقعها الداخلي قبل أن يكون كذلك إنعكاس لأي مؤامرات محتملة، وكون أن تلك الثورات أو الإنتفاضات فشلت حتى الآن بشكل كبير في تحقيق أهدافها الرسمية النبيلة والتقدمية أو تم إختطافها وإفسادها من قبل فصيل أو أكثر هو إنعكاس لفشل القوى السياسية والمؤثرة بشكل مباشر قبل أن يكون إنعكاسا لأي شيء أخر.
هناك بالفعل مصالح للغير في بلادنا، ولكننا لسنا دمى، وثورة يناير تظل نقطة مضيئة في تاريخ مصر حتى وإن حاول البعض إختطافها أو حاول البعض تشويهها ومن إرتبط بها ليعيد عقارب الساعة إلى الوراء بشكل كامل. طبعا الطرح هنا به بعض من التبسيط للأمور والإختصار بما قد يضع جانبا بعض التعقيدات المعروفة، ولهذا مجال أخر للحديث.
No comments:
Post a Comment