إنتشرت منذ سنوات نظريات عديدة حول يسمى "بمخطط تقسيم مصر"، و أغلبها روايات مرعبة شديدة الرعب تجادل أن جهة ما (كالعادة، المؤامرة تقودها أي من قطر أو إيران أو أمريكا أو إسرائيل، و ربما مجتمعين معا بصورة مذهلة) تحاول أن تقوم بتقسيم مصر الى دولتين أو دويلات متعددة. و للأسف، فقد تبنى بعض الإعلاميين هذه النظرية و أعطى لها ثقلا و حجما لا أرى أنها تستحقه. بل و قام البعض منهم بالإستشهاد بإتفاقية عمرها قرنا تقريبا، و هي إتفاقية سايكس - بيكو بين المملكة المتحدة و فرنسا عام ١٩١٦، التي كان الهدف منها الإتفاق حول شكل و حكم الدويلات المكونة للإمبراطورية العثمانية بعد الإنهيار المتوقع لها بعد الحرب العالمية الأولى، كدليل على (إمكانية) وجود إتفاقيات شبيهة الآن تخص مصر تحديدا. و إستشهد البعض منهم أيضا بمقالات و كتب لناس أغلبها مغمور و تعتمد أيضا على معلومات الكثير منها عادة ما يكون مغلوطا. و يقوم البعض منهم بالإضافة الى ذلك بالإستشهاد بتفكك الإتحاد السوفيتي و يوغوسلافيا و تشيكوسلوفاكيا و السودان على سبيل المثال، ذاهبا إلى أن التفكك و التقسيم شيء واقعي و يحدث. و لكن، من وجهة نظري، هناك مشاكل عديدة في هذه النظرية.
أولا، أغلب الدول التي تم تقسيمها كانت بالأساس دولا منفصلة أو كيانات سياسية مستقلة ثم إتحدت إختيارياً أو تحت ضغوط حربية أو سياسية أو إستراتيجية، و العديد منهم لم يمر على إتحاده أكثر من مائة الى مئتي عام قبل إنفصالهم، بينما مصر هي دولة مركزية موحدة منذ آلاف السنوات.
ثانيا، هذه الدول تتكون عادة من تكوينات سكانية مختلفة بصورة جذرية، سواء على المستوى العرقي أو اللغوي أو الديني أو ما غيرهم. و هذه التكوينات تكون عادة متمركزة في أماكن جغرافية محددة و ممتدة و تنتهي بحدود الدولة بحيث يسهل فصلها عن بقية الدولة دون أن تكون الدولة الوليدة دولة حبيسة. ففي السودان مثلا، تركز في الشمال السكان العرب المسلمين، بينما تركز في الجنوب السكان الأفارقة الذين يتحدثون الإنجليزية و يدينون بالمسيحية و الأرواحية، و بالتالي فقد كان الإنفصال سهلا و مباشرا. و أما في حالة مصر، فلا يوجد أي من ذلك. فالشعب كله تقريبا من عرق واحد و أغلبه من فرقة واحدة من نفس الديانة، و المسيحييون كذلك أغلبهم من فرقة مسيحية واحدة، و كليهما منتشر في جميع أرجاء الدولة بصفة عامة، و بالرغم من كل المشاكل الطائفية التي حدثت و القضايا الحالية إلا أن العلاقات بين المسلمين و المسيحيين هي مستقرة.
ثالثا، في العديد من هذه الحالات لم يكن الإنفصال بالأساس نتيجة لمؤامرة بقدر ما كان نتيجة لأسباب موجودة على أرض الواقع، ولو كانت هناك مؤامرة فهذه المؤامرة قد أسرعت فقط من أمر كان لا مفر منه فيما يبدو. ففي السودان كانت الحرب الأهلية ثم الإنفصال إحدى أسبابهم الرئيسية سوء تعامل الشمال مع الجنوب و إدارته لشئونه على مدى سنوات في نواحي عديدة، و إنفصلت مصر عن سوريا عام ١٩٦١ لأسباب عديدة كان أحد أهم أسبابها أيضا سوء إدارة مصر لعملية الإندماج، و إنفصلت يوغوسلافيا بسبب عرقياتها المتعددة و دياناتها المختلفة و تركُز أغلبها في مناطق جغرافية متلاصقة و عدم قدرة الدولة الإتحادية على إيجاد صيغة حكم إتفاقية بعد وفاة الزعيم الوحدوي جوزيف تيتو. و نفس الشيء تقريبا حدث في إنهيار الإتحاد السوفيتي، بالإضافة الى مشاكل عديدة أخرى مثل قمع موسكو للدول التي كانت مكونة للإتحاد السوفيتي، و رغبة كل دولة منها في تحديد مصيرها بعيدا عن سيطرة روسيا، و إنهيار الشيوعية ذاتها.
رابعا، الدولة المصرية دولة تكاملية. فالشمال يمثل العصب المادي و الإستثماري للدولة، و الصعيد و الدلتا العصب الزراعي، على سبيل المثال، و هناك إعتماد مشترك حيوي لا غنى عنه بين أقطار الدولة.
إذا، فحتى ولو كانت هناك مؤامرة من هذا النوع، فلا توجد مقومات تقسيم الدولة في مصر. و لكن هذا لا يعني أنه ربما لا يوجد بالفعل مؤامرات لإضعاف مصر بطرق متعددة أو التأثير عليها أيديولوجياً من جهات مختلفة. و لكن حان الوقت للإلتفات الى التحديات الأمنية و الإقتصادية و الإجتماعية الملحة و العديدة التي تواجه البلاد الآن، بعيدا عن مؤامرات لا داعي للخوف منها بهذا القدر. هذه وجهة نظري، و ربما أكون مخطئا.