Wednesday, 7 March 2012

فكر مغاير حول الدستور الجديد - د. إسماعيل سراج الدين

هذه المقالة نشرت في المصري اليوم بتاريخ ٦/١/٢٠١٢، وأحتفظ بنسخة منها هنا بغرض الأرشفة. شكرا لخالد محيي @KhaledM0hi على لفت إنتباهي لهذه المقالة.
----------------

فكر مغاير حول الدستور الجديد

  بقلم   د. إسماعيل سراج الدين    ٦/ ١/ ٢٠١٢

الدستور هو الحاضر الغائب فى النقاشات الحالية، الكل يتحدث عنه، وعن تشكيل لجنة المائة التى ستضع الدستور، وقد يتطرق النقاش بشكل استقطابى عند النظر للعلاقة بين الدين والدولة، أو يتعرض بشكل هامشى لأنظمة الحكم التى تصلح لمصر، هل هو النظام الرئاسى أم البرلمانى أم المختلط؟ فى كل ذلك الفكر الدستورى الحديث غير حاضر فى النقاش، والقوالب الجامدة هى التى تهيمن على النظرة للدستور، دون إيلاء أهمية إلى الطفرة الكبرى التى حدثت فى هذا الصدد على مدار العقود الماضية.

نحن نضع دستوراً فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، كيف نفكر فى الدستور؟ هل نستلهم دساتير سابقة جاءت فى عصر غير العصر، وتصدت لمشكلات غير المشكلات الآنية، وانشغلت بتطلعات إلى مستقبل غير ذلك الذى نتطلع إليه؟

إننى أفضل أن أطرح على القراء الأعزاء، والقوى والحركات السياسية، والفقهاء الدستوريين بعضا من الأفكار والقضايا، المسكوت عنها فى الحوار حول الدستور المقبل، توضح كيف أن الفكر الدستورى بحاجة إلى التفكير خارج «الصندوق»، والنظر بشكل أكثر رحابة إلى مستقبل لم تتضح معالمه، ولم تظهر قسماته بعد. وسوف تلاحظون، أن ما أطرحه من أفكار يمكن أن يطبق فى ظل أى نظام حكم، برلمانى أو رئاسى أو مختلط، مركزى أو مفرط فى صلاحيات المحليات، لا يهم، لأن هذه الأفكار تمثل علامات للتوجه المستقبلى، لا يصح أن يتغافلها واضعو الدستور فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين.

■ القضية الأولى: المواطنة. لأول مرة على مستوى العالم، الذى يبلغ عدد سكانه ٧ مليارات نسمة، هناك ما يقرب من ٣٪ من المغتربين، أى الذين يحملون جنسية دولة، ويعيشون لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية فى دولة أخرى. فى السابق، كما شاهدنا فى الهجرات الأوروبية للولايات المتحدة تنقطع صلة المهاجر بوطنه الأصلى، وهو ما لا يحدث الآن فى أحيان كثيرة، حيث يظل حضور «المجتمعات المهاجرة» فى السياسات الخاصة بالأوطان التى هاجروا منها ملحوظا ومتنامياً. هنا يصبح من الضرورى إعادة التفكير فى مفهوم «المواطنة»، وعلاقتها بالزمان والمكان والميلاد، والجنسية والتجنس وازدواج الجنسية، وغير ذلك من الأسئلة، وما قد يترتب عليها من أسئلة فرعية: هل يكتسب الشخص جنسية الدولة لميلاده على أراضيها؟ أم لميلاده من أب وأم أو أى منهما يحمل جنسية الدولة؟ ما الموقف من التصويت فى الانتخابات؟ إذا كان هذا الأمر مقرراً لحملة الجنسية المصرية فى المهجر حتى إذا كانوا مزدوجى الجنسية، فماذا عن أبنائهم فى المهجر، الجيلين الثانى والثالث من المهاجرين.. إلخ؟

القضية الثانية: المجتمع المدنى، حيث لا يزال لدينا التعريف الكلاسيكى للسلطات الذى قدمه مونتسيكو فى القرن الثامن عشر، وهو التفرقة ما بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. الآن يتشكل المجتمع الحديث فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين من سلطات أخرى إلى جوار السلطات الثلاث، ومنها مثلاً المجتمع المدنى، الذى تنامى كما وكيفا، وأصبح طرفاً رئيساً فى صنع السياسات العامة محلياً وإقليمياً ودولياً. خذ مثلاً الأمم المتحدة، رغم أنها تقوم على مفهوم السيادة للدولة بمعناه الكلاسيكى، إلا أنها لم تعد تستطيع أن تعقد قمة دولية لممثلى الدول دون عقد قمة موازية لمنظمات المجتمع المدنى. وهناك منظمات غير حكومية دولية- مثل المنظمات البيئية العالمية ومنظمات حقوق الإنسان والشفافية الدولية- أصبحت لها قوة تأثير عبر الحدود وعلى الحكومات، وتتخطى مفهوم السيادة بمعناه التقليدى من حيث السيطرة على بقعة جغرافية وسكانها من خلال تداخلها مع المنظمات غير الحكومية المحلية.

وإذا كنا من ناحية أخرى نرجو تعزيز الديمقراطية فى المجتمع المصرى، وغيره من المجتمعات العربية، فلا مفر من تدعيم منظمات المجتمع المدنى، خاصة فى ضوء الدراسات الكثيرة المتعاقبة التى أثبتت كيف أن انتشار الديمقراطية يرتبط بتمدد هذه المنظمات كما وكيفاً. فلا يجوز أن يركز الدستور على السلطات الثلاث وتوصيفها وتحديد العلاقات بينها، بينما يترك المجتمع المدنى لينظمه قانون تحت سيطرة وزارة واحدة من السلطة التنفيذية.

القضية الثالثة: الإعلام. هناك مقولتان سادتا الإعلام. مقولة اشتراكية ترى ملكية الدولة لوسائل الإعلام، ومقولة أخرى نقيضة لها ترى ترك الإعلام لملكية القطاع الخاص، يخضع لتقلبات السوق، ويقدم ما يرتئيه ملاك الوسيلة الإعلامية. قد نجد أنفسنا فى موقف الرفض للاثنتين معاً. لابد من تفكير مختلف، والبحث عن صيغة جديدة للتعامل مع الإعلام الذى بات تأثيره يتخطى المفهوم التقليدى لسيادة الدولة، ونحن الآن فى عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة، وإذا كنا سوف نضع دستوراً لمصر لعقود تالية، فلابد أن نفكر جدياً فى صيغة جديدة للتعامل مع الإعلام، جديده وقديمه، الإعلام الجديد والإعلام التقليدى،
فمن كان يمكن أن يتصور منذ عشر سنوات الدور الذى تلعبه الآن مواقع التواصل الاجتماعى «الفيس بوك» و«التويتر»؟ وماذا سيأتى من وسائل جديدة فى هذا الإعلام الجديد فى السنوات المقبلة لتلعب مثل هذا الدور التأثيرى الهائل، الذى أدى إلى إشعال ثورات؟ كل ذلك يهز المفاهيم التقليدية فى الدستور. هناك مثلاً اليوم من يطالب بأن يصبح «الحصول على الإنترنت» حقاً من حقوق الإنسان يضاف إلى طائفة الحقوق المدنية. السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواردة فى الميثاق العالمى لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كيف يمكن أن نضع دستوراً فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين دون أن نستشرف قضايا وإشكاليات على هذا النحو، ولن يفيد العودة إلى الدساتير السابقة فى استلهام حلول لهذه الإشكاليات.

القضية الرابعة: الفكر البيئى، الذى أصبح مؤثراً على المستوى الكونى، منذ مؤتمر «ريو دى جانيرو» عام ١٩٩٢، ومن الطبيعى أن يعرف طريقه إلى دساتير الدول المختلفة. نجد إشارات على ذلك فى دستور جنوب أفريقيا الذى وضع فى عهد الرئيس نيلسون مانديلا فى الحديث عن المياه والغابات، لكنه لم يقدم تصوراً متكاملاً للتعامل مع البيئة. يطرح الفكر البيئى قضية مهمة هى مسؤولية الأجيال الحالية تجاه الأجيال المستقبلية، والمسؤولية تجاه كوكب الأرض، وكل الكائنات الحية به. هذه التصورات لم تكن موجودة من قبل. فى الدساتير السابقة كانت الأجيال الحالية تنظم الأمور من وجهة نظرها، وفى يقينها أن الأجيال المستقبلية سوف تمضى على نفس المسار.

القضية الخامسة: الإدارة المشتركة للموارد. حتى الآن لا يزال هناك التصور التقليدى السائد بأن الدستور ينطلق من، ويؤكد على، السيادة المطلقة للدولة على منطقة جغرافية معينة، ولكن هذا التصور، فضلاً عن أنه يتعرض لتحد حقيقى من جانب المجتمع المدنى والإعلام، وكلاهما أصبح يتداخل مع قوى عالمية وغير قابل لهذا التحديد الجغرافى التقليدى، كما سبق الحديث، فإن هذا التصور الجغرافى يقف حائلاً أمام الإدارة المشتركة للموارد، وهو أمر لا غنى عنه فى العصر الحديث، وسوف يزداد مستقبلاً لمواجهة التحديات، مثال على ذلك قضية مياه النيل، لن يمكن حلها دون تعاون مع دول حوض النيل.

القضية السادسة: إشكاليات فى التعامل الواقعى مع تطبيقات المفاهيم المطلقة المجردة مثل الحرية والمساواة والعدالة. أظن أنه من المفيد حين نضع دستوراً فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين أن نرصد الإشكاليات التى مرت بها الدول الديمقراطية خلال الخمسين أو الستين عاما الأخيرة من عمرها، فى محاولتها لتطبيق أنظمة تضمن تحقيق هذه القيم النبيلة، ومنها مثلاً التعامل مع الحرية والمساواة والعدالة. الأصل الذى تأخذ به الدساتير أن المواطنين سواء أمام القانون بصرف النظر عن الاختلاف فى اللون أو الدين أو الجنس أو العرق أو ما شابه. هذا هو المبدأ الأساسى، ولكن هناك من يرى أن الناس لا يتمتعون- واقعياً- بالمساواة لأسباب عديدة منها فسيولوجية، واجتماعية، وتتصل بالمواهب والمهارات والذكاء الخاص بكل شخص.

 وبالتالى المجتمع لم يعد مجتمعاً عادلاً، بمعنى من المعانى. حل هذه الإشكالية استغرق نقاشات وطرح أفكار منها- على سبيل المثال- مفهوم «الحصة فى المقاعد البرلمانية» أو ما يطلق عليه «الكوتة»، وهو اختراع لتعزيز تواجد وتمثيل الفئات المهمشة. قد يقول البعض إن ذلك يخل بمبدأ المساواة أو الحرية (فيقيد حريتى كرجل أن أترشح على مقعد فى كوتة المرأة)، ولكن من ناحية أخرى يعزز هذا الإجراء مبدأ العدالة، بشرط أن يكون اللجوء إليه مؤقتاً حتى تتعادل مرة أخرى دفتا الميزان فى المجتمع.

من هنا فى الحالة المصرية يجب أن نجرى بحثاً دقيقاً لمعرفة الفئات المهمشة، ونضع من الحلول ما يساعدها على التمكين السياسى والاجتماعى، والتمثيل الأفضل فى المجالس المنتخبة. هذه ليست قضية أيديولوجية، لكنها تتعلق بالخريطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى المجتمعات، وقد يكون الآن ملائماً إعادة النظر فى تخصيص نصف مقاعد البرلمان على الأقل للعمال والفلاحين، والبحث فى فئات أخرى أقل حضوراً، وتمثيلاً، وأن يكون فى الدستور فكر فى المعايير التى يحسن أن يراعيها المشروعون عند البحث عن توافق بين القيم النبيلة التى لا يختلف عليها اثنان فى صورتها المجردة المطلقة.
هذه الأفكار، وهى قليل من كثير، ينبغى أن تحظى بقدر من الاهتمام فى هذه الفترة، بصرف النظر عما إذا كان الاختيار أن يكون النظام برلمانياً أو رئاسياً أو مختلطاً، المسألة أكثر عمقاً من ذلك تتعلق بمضمون التقدم، والرغبة فى مواجهة تحديات العصر.

No comments:

Post a Comment