اتذكر انني كنت صغيرا وقتها، ربما لا اتعدى تسعة اعوام من العمر، وكنت في زيارة الى مكان اذهب اليه كثيرا مع اهلي. ولكثرة ذهابي من قبل، فقد كان البقال المجاور للمكان يعرفني الى حد ما، وكان رجل مسيحيا إسمه (اعتقد انه كان) على اسمي وكان بشوشا، لطيفا شديد اللطف معي ومع الكل. وفي تلك المرة، تصادفت زيارتنا مع الصيام المسيحي، وكنت قد طلبت من الرجل شيئا ليس مسموحا به اذا كنت صائما. وقبل ان يعطيه لي، سألني مبتسما:
"إنت مسيحي؟ مش قصدي اتدخل، انا بس بسأل عشان لو صايم مش المفروض تاكل ده."
قبل أن اجيب عليه، سمعت صوتا يقول وهو يضحك: "انا هعرفلك." وإذا به احد القساوسة الكبار في السن بصورة واضحة، وكان يرتدي زي القساوسة الرسمي الاسود، وكان ذلك الزي يصيبني بالرهبة كطفل، وما زال يصيبني ببعض من ذات الرهبة حتى الآن.
نظر لي ضاحكا وقال: "تعالى نلعب لعبة. هسألك كام سؤال وهعرف إنت ديانتك ايه. ماشي؟"
كنت اشعر بمزيج من الاحراج والرهبة والمفاجئة في آن واحد، وتخوفت للحظة من أي هدف محتمل للسؤال، إلا أنني رددت مرتعشا بالموافقة، وتوقعت انه سيسألني أسئلة عقائدية او حول الإنجيل. والجانب الطفولي مني الذي لا يحب ان يخسر في اي من الالعاب أراد بالطبع ان افوز بأي صورة، إلا أنني كنت أدري أنني لم أكن على دراية كافية بأي من هذه الأمور. وقبل ان استمر طويلا في التفكير، فإذا به قد بدأ بسؤال أكثر بساطة ومفاجئة في ذات الوقت مما توقعته:
- "لو شفت أي حد محتاج اي مساعدة في الشارع او في أي حتة، سواء إنت تعرفه او متعرفوش، هتحاول تساعده؟"
اعتبرت ان السؤال ساذجا بعض الشيء، وشعرت بفخ ما أو انه يستهزئ بي، ولكنني اجبت بالايجاب. فإستمر:
- "مش الكدب غلط برضو؟"
"وبعدين بقى؟" - فكرت داخليا حول طبيعة ما يسأله، ثم أجبت مرة اخرى بالإيجاب.
- "أبوك وأمك وأي حد كبير محترم، تاخد بالك منهم وتحترمهم وتراعيهم وتسمع كلامها في الصح ولا لأ؟"
كررت الايجاب، وكنت مستسلما تماما عندئذ لفضولي.
- "لما تكبر و تتجوز، هتراعي مراتك وتخاف عليها وتحميها؟"
إحمر وجهي خجلا، فقد كنت طفلا، والحديث عن الزواج كان (و ما زال!) يخجلني ويثير ذعري. ضحك كليهما على خجلي وإحمرار وجهي الذي كان قد صار الطمامط، ثما أجبت بنعم.
- "مين إنسان احسن بالنسبة لك؟ واحد بيعمل خير كتير للناس وفي الدنيا ومش بيؤذي حد بس يمكن مذهبه أو عقيدته مش زيك، أيا كانوا، ولا واحد مذهبه زي مذهبك، أيا كان بس مش بيعمل اي حاجة كويسة؟"
خفت قليلا، ثم قلت له في خوف: "بصراحة، اللي بيعمل الخير، ايا كان."
فإبتسم ابتسامة واسعة.
- "هل المفروض إن الانسان دايما يقول كلمة حق وميخافش من اي شئ، وإن ده يتعمل في اي حاجة وكل حاجة؟"
قلت له "نعم،" ولكن أكن أدري وقتها مدى صعوبة هذا الأمر بالتحديد.
- "لما تكبر و تشتغل، هتشتغل بضمير وبجدية سواء انت وزير او واحد بينظف الشارع؟"
رددت عليه بنعم مرة آخرى، ثم اكدت له انني سأكون رائد فضاء، بلا شك، على متن السفينة الفضائية المصرية المستقبلية "صاروخ النيل ٤" أو "نسر الفضاء ٢". لم يكن لدي شك في ذلك الأمر.
- "هل تؤمن بالعنف مع اي حد على اي حاجة؟ او بالأذية؟ او انك تمنع حد من حريته و تهين كرامته؟ هل شايف إن الإحترام في الألفاظ والكلام مش واجب؟، او تؤمن ان بعض الناس افضل من غيرها عشان لون جلدها او البلد اللي جاية منها او اللغة اللي بتتكلمها او اي حاجة تانية، ولا الناس كلها واحد في الدنيا كلها؟"
قلت له سريعا انني لا أؤمن بهذه الاشياء، وإنني أؤمن ان كل الناس شيئا واحد من مصدر واحد ولا تفرقة بيننا. لم اقل ذلك بنفس الاسلوب طبعا، وإستخدمت ردا اكثر طفولية، ولكن هذا كان المعنى.
- "ايه هي اهم قاعدة اخلاقية؟"
اخذت فترة في التفكير، و لم استطيع ان اعرف ماذا كان يريد مني القول. فقررت ان اجاوب في "فهلوة" مني و قلت له "معملش حاجة وحشة في حد غيري، وأعمل له حاجات كويسة وكده." وكانت "وكده" طبعا لمسة لغوية عظيمة تعبر عن لباقة وعمق لغوي مبكر ومدهش.
ثم إبتسم ابتسامة اكبر ونظر الى البائع وأضاف: "بص، لسه مش عارف أحدد هو مسيحي ولا مسلم، بس هو أكيد واحد منهم."، وكان على وجهة إبتسامة من وصل إلى هدفه.
ثم سكت قليلا وأخذ منه الحلوى وأعطاها لي، ثم اعطاه ثمنها وقال ضاحكا: "وبعدين الواد مكملش كام سنة. حتى لو مسيحي متسيبه ياكل اللي هو عايزه. انت هتعقدها ليه!" و ضحكا كليهما وضحكت معهم وأنا لا افهم اي شيء مما يحدث، ثم ذهب القسيس الى حاله، وذهبت أنا كذلك وأنا ابتسم لأنني لم أدفع شيئا، وإعتبرت ذلك نصرا عظيما، فالحلوى المجانية هي أعظم ما يمكن لطفل أن يصل إليه، وهي الغاية والسبيل والحقيقة.
ثم بعد ذلك بكثير فهمت ما اراده القسيس قوله وفعله، وإبتسم قلبي قبل وجهي في تلك اللحظة.
دائما عندما احكي هذه القصة، يتهمني الجميع انني قد إختلقتها، و اعرف انكم ستفعلون مثلهم! على أي حال، إنت حر في أن تصدق أو لا تصدق.
-------
ملحوظة: تم مراجعة هذه القصة لغويا منذ نشرها الأول.
I believe u that it happened. Deep yet nice an simple
ReplyDeletehonest simple meaningful deep and touches the heart
ReplyDelete