Thursday 7 July 2011

التحليل الفني و السياسي و الفلسفي لأغنية أحمد سبايدر "بتحبيني"ـ


كل فترة و فترة تمر الفنون و العلوم و الانسانيات بتحولات جذرية، سماها الفيلسوف و العالم "توماس كون" Paradigm Shift او تحول المنظور، و هو مصطلح يعني ان شيء ما قد غير كيف ننظر تماما الى الدنيا، على الاقل في مجال محدد. فجاليليو Galileo غير رؤية العالم حول العلاقة بين الارض و الشمس في المجرة، نيوتن Newton غير كيف نفهم قوانين الفيزياء، اينشتين Einstein كسر فكرة ان الزمن مقدار ثابت لامتغير، و سقراط Socrates اعطى العالم الديالكتيك Dialectic الفكري الجدلي و الطريقة السقراطية Socratic Method في التحليل الفلسفي.

و كما ذكرت أنفا، فالفن ايضا يمر بمثل هذه التحولات. ففان جوخ Van Gogh جسد الفن الانطباعي، و جوستاف دوريه Gustav Doré مثل نقلة في الفن المرسوم بالفحم، سباستيان باخ قاد تحول كبير اعطى موسيقى الباروك Baroque التفوق على امثالها ابان عهده، مايكل انجلو Michaelangelo حول العالم بنحته و نجح في التقريب بين الديني و الدنيوي، ثيربانتس اهدى العالم الرواية الحديثة في صورة دون كيهوته (دوت كيشوت).

و يحدث الشيء مثله في الغناء بالطبع. فبافاروتي Pavarotti مثلا قرب للعالم الموسيقى الكلاسيكية و الاوبرالية، و جعلها محبوبة للناس كلها، و ليس فقط للنخبة، الAbba كانوا نقلة في عالم الفرق الموسيقية مثلهم مثل BeeGees، و بالطبع مايكل جاكسون الهب العالم و ما زال يلهمه.

و مصر ام الدنيا، و هي الحضارة، و هي عبق التاريخ، حضارة ٧٠٠٠ الاف عام، ثلاثة اهرامات، هرم سقارة، و أبو الهول، و لابد ان يظهر منها مثل هذه التحولات ايضا، مثلما كان امنحتب او عبد الناصر او مجدي عبد الغني و هدفه الشهير عام ١٩٩٠ في هولاندا اثناء كأس العالم، فكان هذا اول هدف يُنزل وحده "عدالة السماء" الى مجال الرياضة كلها.


الأول...

و اليوم، احدثكم عن شخص عرفتموه كمناضل، يناقش السياسة و يقف صامدا ضد التيار بينما تنجرف الاسماك و الخراف مثلنا البشرية معه. وقف يدافع عن رأيه على قناة تمثل قلب مصر، الروح الفرعونية، و هي قناة الفراعين، مع المناضل العظيم الصحفي و عدو الماسونية الأول عالميا توفيق عكاشة. و اعلن انه لن يكل و لن يمل حتى يسقط ذلك الجاسوس الماسوني اللعين، وائل غنيم (دليل: ارجو مراجعة الحظاظة الخضراء و التي شيرت ذات علامة الاسد، و هي دلائل لا تقبل الضحد او النقاش). هو يعبر عن ما لا يقل بأي حال من الأحوال عن العشرات منا...



المقاتل البطل "الصنديد"، و عدوه اللدود وائل غنيم، ذلك الماسوني البغيض!
(ارجو ملاحظة السجع في الجملة السابقة)






انه العنكبوتي أحمد سبايدر.

و بينما كان من الممكن ان يكون أخطبوطي، أي Ahmed Octopus مثلا، الا انه إختار العنكبوت لأنه أقرب الى الروح المصرية و لأنه رمز للبطولة (راجع سلسلة Spider Man). و هو عنكبوتي لأن ايديه و ارجله كثيره، فهو يفعل اكثر بكثير مما يعرفه البعض عنه. فبينما نحن نعرفه فقط كمناضل سياسي و مُخاطر من اجل الوطن، فهو قبل ذلك مطرب، اشتهر في عالم ال R&B، و هي اختصار لRhythm & Blues، و هو فن امريكي يخلط الJazz و الPop والSoul لإعطاد مزيج محرك للمشاعر قبل الابدان. و اشتهر في هذا الفن Beyonce و Usher و Boyz2Men و Mariah Carey في احدى فتراتها و الفنان كارم محمود و سمير صبري و غيرهم.

و اليوم أحلل لكم أغنية: "بتحبيني"، و هي من مقطوعاته الرومانيسة الشهيرة، و هي مقطوعة تتميز بطبقات اكبر بكثير مما يتخيل البعض منا. ارجو الاستماع الى الاغنية مع قرائة المقالة، بدئا من هذه النقطة.




سبيادر في فيديو يظهر صداقته لرجال الدولة الكبار و مدى تأثيره السياسي.


اذا كنت بدأت في الاستماع، فلابد انك لاحظت ان الاغنية تنتمي بلا شك الى مدرسة الوجودية السارترية Sartrean Existentialism التي يشتهر بها سبايدر، و بها بعضا من وجودية كامو Camus، و كليهما يتميز بقدر رهيب من الشجن و الحزن و البحث عن معنى الحياة و موقع الانسان فيها عندما نفقد كل الثوابت. فبعد مقدمة من بيانو الجاز هي تذكرنا بDuke Ellington و معزوفاته الاشهر في فترة ما  بعد In A Sentimental Mood، يُحدث بطل الاغنية يحدث محبوته (السابقة)، و يواجهها انها تحبه و تحب شخص آخر في نفس الوقت، في جملته في مقام الري الصغير D Minor "بتحبيني ولا بتحبيه، نفسك تبقي عشاني و ليه". و بينما تتداخل الكوالة، و هي آلة فيها روح الموسيقى المصرية، مع الJazz الغربي بإنسيابية تذكرنا بأنواع معقدة من الFusion الموسيقي، فنشعر مع ذلك ان شيء آخر ليس على ما يرام بينهما، اكثر مما نعرف حتى الآن. فهل هي فعلا تحب سبايدر، ام تتلاعب به؟ هل الكوالة هي تمثل سبايدر بمصريته، بينما يمثل البيانو العشيق الثاني؟ هل يريد سبايدر افهامنا ان العشيق الثاني هو غربي امبريالي رأسمالي (ماسوني؟) بينما هو سبايدر من البروليتاريا الكادحة؟ هل يريد القول ان جدلية هيجل Hegelian Dialectic لم تصل بالزمن بعد الى انتصاره كمواطن بسيط على ذلك الدخيل الرأسمالي!؟ نعم. لا شك لي ان سبايدر لا يريد فقط مناقشة الحب و السيكولوجية الانسانية، و لكنه حتى يناقش السياسة و الاقتصاد، في عالم ما بعد الحداثة Post Modern World حيث القيم اصبحت نسبية و هشة. لا ادري، طبقات فلسفية عديده من المستحيل سبر اغوارها جميعا.

و يذكرنا العنف العاطفي في الكلمات و الالحان بدوستويفسكي Doestoevsky عامة في رائعته "مذكرات من تحت الارض"، و نيتشه Nietszche في "هذا الانسان" Ecce Homo و "جينيالوجية الاخلاق" Genealogy of Morals (ملحوظة: لا ارى علاقة وطيدة مع "هكذا تكلم زرادشت" Thus Spake Zarathustra مثلما ذكر احدهم لي). 

و يزيد سبايدر لدينا الشعور الوجودي الذي يذكرنا بصورة مقصودة لا شك بإسطورة سيزيف Sisyphus، (التي كُتب فيها على البطل ان يدفع حجر اعلى جبل فقط لكي يسقط مرة اخرى، و يستمر هكذا الى الابد)  عندما يقول انه لا يفهم اطلاقا و بصورة متكررة ما تقوله له. فهي تكلمه و هو لا يفهم، و قد صاغ الشعور بصورة قوية في مقولته "انا مش فاهم حاجة"، و هي جملة صغيرة تحافظ على ميزان 4/4 الموسيقي مع اعطائها المعنى كاملا لكل ما يمر به بطلنا. و الغريب ان سبايدر، و هو المشهور بذكاء رهيب يجعله يكتشف المؤامرات حيث بينما لا يراها البعض، لم يفهم ما قالته الفتاة له! هذا في حد ذاته شيء خرافي لا يصدقه عقل و يفتح اسئلة اكثر مما يغلق!

الا ان البطل سرعان ما يتدارك نفسه في الحركة الموسيقية الثانية، و التي يظهر فيها بوضوح اكثر تقلبات بين تأثير فيفالدي Vivaldi و مقطوعة الشتاء و مقطوعة الاداجيو لصامويل باربر Adagio by Samuel Barber و الاداجيو لألبينوني Albinoni's Adagio (و لا يخفى على القارئ ان هناك جدل حول ما اذا كان البينوني فعلا الف تلك المقطوعة الشهيرة) و مقطوعة "كل البنات بتحبك" للموسيقار حسام حسني. المهم، فسبايدر يواجهها انه (أخيرا!) فهم ما تقصد (بعد تكرارات متعددة، و قد يشير هذه الى لدغة ما او اعاقة كلامية معينة لدى محبوبته السابقة، و لذلك تباعيات اخلاقية لا اريد الخوض فيها). فقد فهم سبايدر، و طعنه ذلك الفهم في صدره كمقتل قيصر على يد بروتوس، انها تحب الشخص الآخر فقط، ، انها تفكر فيه حتى  و هي مع سبايدر (يا بنت ال....)، سواء ان كان ذلك في النادي او المصيف او في احدى اجتماعات حركة ضد التيار، و الذي أسسها سبايدر! و لذلك، فأدرك سبايدر بفهمه المعتاد و غريزة بقائه انه حان الوقت لتركها لأنها قد قررت نفس الشيء. يقول لها: "كل كلامك ايوا فهتمه"، و هو دليل على الفهم التام و الكامل للموضوع و ما قالته، فهو فهم "كل الكلام"، و ليس جزء منه كما يحدث ما اغلبنا. ثم يردف قائلا: "قصدك تقولي كفاية كفاية"!

كفاية!

كفاية؟!

ما هو السبب يا ترى الذي جعلها تنفر و تهرب من سبايدر الى هذه الدرجة؟ لا استطيع ان اتخيله اطلاقا!؟ لا يمكن فهم تلك الفتاة. لا يمكن فهمها مطلقا...

استمرارا، فلقد قرر ان يتغذى بها قبل ان تتعشى به، في حركة تدل على صائد و مقاتل بالفطرة. و في ذلك تطبيق صريح و علني للدكتور ابراهيم الفقي و  لSteven Covey و توصيف الاخير للأشخاص لنوعين: المبادر الفاعل Proactive و المتفاعل Reactive. بسبايدر كان ممكن ان يكون متفاعل، الا انه قرر ان يكون مبادر فاعل، و في هذا دليل و تجربة حية على اهمية ان يتخذ كل منا المبادرة في حياته، و السير في الطريق الخطير لأنه الصحيح في رأينا، مثلما فعلParsifall في الاوبرا المسماه بإسمه  و فعل ايضا الفارس في أوبرا Turandot لPuccini.

و الان، فهو في موقف مستحيل الانتصار فيه، كما كتب هيلر Heller في روايته الشهيرة.  هل يفقدها الآن، او يفقدها فيما بعد؟ الا انه اتخذ قراره،  و قرر فقدها الآن. يا الهي. اشعر بحرقة في صدري كلما اصل الى تلك النقطة من الاغنية.

و تستمر المعزوفة الابدية بعد ذلك في الاغلب بصورة نحيب و بكاء لم، و لن (اتمنى)، تسمع مثله من قبل. و يستمر في خلال ذلك النحيب و الصراخ و العويل ان يغني بما لا صلة له نهائيا بالموسيقى او الايقاع، في ضربة و لمسة عبقرية توضح انفصاله عن الواقع تماما و عدم شعوره بما حوله بأي صورة من الصور، كأنه لا يعيش معنا على سطح الارض اساسا، و يذكرني ذلك بمرض اللا شخصنة Depersonalisation حيث يفقد الشخص اتصاله بالواقع تماما. تماما. و يقول البعض انه تم استخدام كائن بري (لن اذكر اسمه) لإحداث هارمونية صوتيه مع صوت سبايدر في آن واحد. لا اعرف، و لكن فإن كان ذلك صوته وحده، فهي عبقرية. و ان كان خلط اصوات، فهي عبقرية اخرى.

و في قتل رحيم Coup-de-grace  للمستمع، يختفي صوت سبايدر و الكوالة و يتبقى لا شيء سوى البيانو، و الJazz...


Jazz...


Jazz؟!

يا الهي، انه تشبيه خارق و فذ، فقد انتصرت الامبريالية الرأسمالية الماسونية الغربية الممثلة في العشيق الثري و موسيقى الJazz، و سقطت جموع العمال تحت طاغوتها، و تعطلت مسيرة الكفاح البروليتاري لفترة ليست بقليلة، مثل بعد انهيار حائط برلين، و كلها اشارات واضحة من سبايدر لمستمعيه، و مقصودة لمن يريد ان يتعمق في اغانيه (ملحوظة: مثلما كانت اغنيته "الجنيه المصري" نقد خفي لسياسات التعويم الجزئي لعاطف عبيد و سياسات صندوق النقد الدولي في تعامله مع النمور الاسيوية خلال الازمة عام ١٩٩٧، و دور الملياردير جورج سوروس في الكارثة). و يلاحظ ان التصارح هو سبب الفراق بين سبايدر و فتاته، فهل في هذا نقد واضح لسياسة الجلاسنوست و البيريسترويكا Perestroika & Glasnost لجورباتشيف و الذان قضا على الشيوعية السوفيتية؟ ام هو اعتراف بطولى ان النظر الى الواقع السيء لإصلاحه اهم من خيال أو وهم جميل يؤدي بنا الى الهاوية؟ لا أدري. تعقيد و اعجاز في الكلمات و الالحان هو اسمى من ان يفسره عقلا بشريا واحدا...

كما ان اختياره للJazz له دلالة. فالتعريب هو "جاز"، الذي هو عربيا "غاز"، في اشارة الى سيطرة البترول و الطاقة و الاموال الغربية و المادة على حياتنا. هل في هذا، يقصد سبايدر، اشارة الى قيم الزهد في الصوفية و البوذية و الجاينية؟ ربما. لا استبعد شيئا على ذلك عبقري.

استعرضت لكم هذه المقطوعة لشخص هو اكبر بكثير من مطرب او ملحن او فنان او حتى مناضل. و لا اشك انني لم اسبر اغوار اعماق ربع طلاسم و اسرار هذا العمل الفني. و لكنني لست سوى انسان...


اما هو...

فهو رمز...


و هو تغيير للمنظور...

No comments:

Post a Comment