بوستر تقليدي دعائي سوفيتي
توضيح مفاهيم سياسية ٤: الاشتراكية و الشيوعية
هذه هي النسخة المطولة من هذا المقال. و هي تقنية بقدر كبير. اضغط هنا للنسخة المختصرة اذا اردت.
------------
احاول في هذه السلسلة الحفاظ على قِصر المقالات، الا ان ذلك سوف يؤثر سلبا نسبيا على موضوعنا التالي. فالاشتراكية هي واحدة من الايديولوجيتان العظمتان مع الليبرالية، و هي من وجهة نظري اكثر تعقيدا و اكثر تعددا في الاشكال و اصعب في الشرح و لها خلفية فلسفية اعقد. و مع ذلك سأفضل الاختصار و اترك لك حرية التوسع فيما بعد.
------
الاشتراكية هي فلسفة سياسية و اقتصادية قديمة جدا، و تقترن باليسارية (راجع المقال السابق ان اردت) و في قلبها فكرة تكافل المجتمع و محاولة انهاء التفاوتات بين الناس في مستويات المعيشة و الرفاهية، و الاهتمام بالعدالة الاجتماعية و الغاء فكرة الطبقات القائمة على الممتلكات المادية و المالية او الانتماء لعائلات ملكية او نبيلة او غيرها من الطبقات التي تقسم المجتمع على اسس طولية (مثلا: ملوك ثم نبلاء ثم طبقة وسطى ثم فلاحين ثم عبيد)، و تقديس العامل كالطبقة الاساسية في المجتمع، و تسمى طبقة العمال في اي مجتمع "البروليتاريا". و الفكرة الاساسية الاخرى في الاشتراكية ان المجتمع ينتج ما يحتاجه و يقسم الانتاج بناء على مجهود كل من ساهم في الانتاج و كل من يحتاج. و هناك الجملة الشهيرة: "من كل حسب قدرته، لكل حسب احتياجه."
و المجتمع في الاشتراكية بشكلها الرئيسي يتملك بصورة مشتركة ما يسمى بوسائل الانتاج، سواء عن طريق الدولة او المدينة او ما يسمى بالتعاونيات العمالية (عندما تمتلك و تدير مجموعة من العمال مصلحة او شركة ما و تستفيد بناتج انتاجها مباشرة عن طربق استخدامه او مقايضته او بيعه) او اي شكل تنظيمي آخر للمجتمع، و تلك الوسائل المقصود بها الثروات الطبيعية (مثل الاراضي و مصادر الطاقة)، البنية التحتية، و المصانع و الادوات التي تستخدم لانتاج الثروة في المجتمع. ذلك بالطبع على عكس الرأسمالية البحتة حيث يسمح للافراد بامتلاك الاراضي و الموارد و المصانع و غيرها. و تتميز اغلب الدول العالية الاشتراكية بشيئ يسمى "الاقتصاد المُخطط" (و ليس المِخطط كما كان يسألني احدا منذ القليل!) و هو ان الدولة تقوم بتحديد مسار الاقتصاد من حيث مجالات الاستثمار و الصناعات الاستراتيجية و اولويات البحث العلمي و تحديد اسعار اغلب السلع و توزيع الموارد الطبيعية و الصناعية و غيرها، و قد يحدث ذلك بصورة تامة عن طريق الدولة بدون قطاع خاص كما كان في الاتحاد السوفيتي السابق و كوريا الشمالية حالية، و هي نماذج مختلفة لما يسمى الدولة الشيوعية، و التي هي اقصى درجات الاشتراكية المنظمة على نطاق واسع.
المطرقة و المنجل، احد اشهر رموز الاشتراكية و الشيوعية
(بحطلكم صور ملونة عشان الحركات برضك)
و للاشتراكية انواع و درجات كثيرة. فالاشتراكية الاوروبية تؤمن مثلا بدور السوق الحر و مع ذلك تؤمن بمجالات احتكارية للدولة و بتوفير رعاية صحية مجانية لكل افراد الدولة و اعانات بطالة سخية و دعم اسعار السلع الاستهلاكية و قدر ليس قليل من التخطيط الاقتصادي و بضرائب اعلى من النماذج الليبرالية و الوسطية. النموذج الاوروبي الشرقي الشيوعي مثلا اثناء فترة الاتحاد السوفيتي (مثل المجر و يوغوسلافيا و تشيكوسلوفاكيا السابقة) سمح بانواع بسيطة من الاسواق شبه الحرة للسلع الاستهلاكية و ترك قدر من التخطيط و الادارة و الملكية (في بعض الاحيان) للعمالة القائمة على تلك المصالح. النموذج الصيني الشيوعي الحالي به اسواق و منافسة و شركات عديدة، الا ان اغلبها مملوك بصورة كاملة او شبه كاملة للدولة الصينية، و و تظل الصين تنفتح اقتصاديا يوم بعد يوم بالرغم من ذلك و تقترب من النموذج المختلط بين الشيوعية و الرأسمالية. و اخيرا النموذج السوفيتي (و الكوري الشمالي، بصورة متقاربة) كان يتكون من احتكارية كاملة للدولة. فكان هناك شركة كبرى منفصلة متخصصة تقوم بالانتاج و الاشراف على كل مجال من مجالات الاقتصاد، و لا تنافسها شركة اخرى في نفس المجال. فمثلا، يكون هناك شركة كبرى لانتاج الملابس و الغزل و النسيج، و شركة للطاقة، و شركة للمياه (ملحوظة: لاحظ كيف اغلب شركات القطاع العام المصري منذ العهد الناصري اسمها كله يبدأ بمصر، مثل مصر للطيران، و لم تنافسها شركات اخرى الا في حدود ضيقة لفترة طويلة)، و غيرها، و تقوم هذه الشركات بتوزيع منتاجاتها في مراكز توزيع و متاجر تتحكم فيها الدولة و طبق اسعار محددة مسبقا. و تفضل بطبيعة الحال هذه الدول الانتاج المحلي و عدم الاستيراد، و تحاول اذا اضطرت ان تستورد من دول اشتراكية او شيوعية اخرى اذا امكن، و سيطرت الاشتراكية و الشيوعية على نصف العالم حتى اوائل التسعينات، و سميت بدول العالم الثاني مقرانة بدول العالم الاول (الرأسمالية) و العالم الثالث (الدول النامية).
و اغلب دول العهد الشيوعي تمتعت بنظام الحزب الواحد، و هو الغاء وجود احزاب سياسية باستثناء حزب واحد كبير (مثل الحزب الشيوعي الصيني او الاتحاد الاشتراكي المصري) و يضع هذا الحزب السياسة العامة للدولة، و يتقيد هذا الحزب بمبادئ الاشتراكية او صورتها الاقصى، الشيوعية، و لا يسمح له الخروج عن هذه الايديولوجيا.
و يشير من لا يقتنع بالاشتراكية كفلسفة ممكنة التطبيق بصورة واسعة انه بالرغم من مثالية هذه الافكار، الا انها عانت من عدة مشاكل ادت الى سقوط الشكل السوفيتي من الاشتراكية او تخفيف الاشتراكية الصارمة في اوروبا الشرقية و غيرها و دمجها (او الغائها و حل وحلها) بالرأسمالية. اولا، وجود حزب واحد و اتجاه عقائدي اشتراكي/شيوعي للدولة ادى الى قمع و اعتقالات و تعذيب من قبل النظم الحاكمة، و ادى الى ظهور طبقة فاسدة حاكمة و تركز السلطة في يدها. ثانيا، عدم وجود منافسة داخلية ادى الى تراجع وتيرة الابتكار و تحسين اساليب الانتاج و نمو التكنولوجيا (باستثناء في المجال العسكري نظرا للمنافسة مع الدول الغربية) و تشابه العديد من المنتجات الاستهلاكية و التحكم في الذوق العام و ضعف جاذبية السلع في العديد من الحالات، على المستوى المحلي و الخارجي. المشكلة الثالثة هو ان العديد من الدول شديدة الاشتراكية (و ليست الشيوعية) خلقت مناخات غير مشجعة للتجارة مع الخارج و الاستثمار الاجنبي بها، و خسرت بذلك الكثير من الاستثمارات و الخبرات التي كان ممكن ان تجتذبها. و ادى ذلك في نهاية المطاف الى انتهاج عدد واسع من هذه الدول الى انتهاج سياسات الطريق الثالث الوسطي بين الشيوعية/الاشتراكية/اليسارية و الرأسمالية، و بعضها اتجه بصورة اقصى الى الرأسمالية (مثل روسيا). و يحبذ بعض الاشتراكيين الى القاء اللوم على ما يروه تنفيذ خاطئا للاشتراكية، و ليس الاشتراكية نفسها. و الحوار يستمر حول القضية.
من اليسار الى اليمين، كارل ماركس، لينين، و الفنان سمير صبري
و اخيرا، احدى اهم الافكار في تاريخ البشرية هي فكرة الجدلية التاريخية. تؤمن هذه الفكرة ان التاريخ هو مجموعة من الصراعات بين فكرتان كبيرتان تختلفان في كل عصر، و ينتج عن هذا الصراع فكرة ثالثة مختلطة تتحرك بالتاريخ الى الامام باتجاه الفكرة الامثل و الاخيرة في التاريخ. و قد آمن كارل ماركس و فريدريش انجلس بأن العالم يدخل صراعه الاخير بين الرأسمالية و الاشتراكية، و انه سينتج عن هذا الشيوعية و التي ستكون الايديولوجيا المثلى و النهائية في التاريخ. و الملاحظة المهمة ان الشيوعية كما تخيلوها كانت تقوم على مجتمعات عمالية متعاونة و ليست دولة مركزية مهولة كما اراد فلاديمير لينين لفترة انتقالية تنظيمية تحولت الى دائمة، كما حدث في الواقع.
و إحدى اشهر الافكار المرتبطة بالشيوعية هي انه تعادي الاديان و تشجع الالحاد، و هذا ليس دقيقا. اليسارية و الاشتراكية بدرجاتاهم موجودين من القدم، و يوجد منها صيغات دينية في واقع الامر. الواقع هو انه عندما قام كارل ماركس بالدعوة الى الاشتراكية فكان عصره كله، بما في ذلك الدول الليبرالية، تمر بفترة غضب ازاء طريقة استغلال الدين في السياسة و ما ادى من ذلك الى قمع و فساد و حروب و تقسيم للمجتمعات، و تشبع كاركس بهذه الافكار مثله مثل عدد كبير فلاسفة وقته، الا ان ماركس اتخذ اقصى المواقف تطرفا و قرر دمج الالحاد في الفكر الشيوعي. و لذلمك ليس معنى ان يكون شخص ما شيوعيا ان يكون ملحدا او معادي للتدين. فمثلا، اغلب دول امريكا اللاتينية التي حاولت تطبيق الاشتراكية و الشيوعية في ذلك الوقت فعلت ذلك عن طريق اختراع ما يسمى بلاهوت التحرير، و هو ربط المسيح شخصيا و افكاره و المسيحية بالفكر الاشتراكي.
المهم انه بالرغم من سقوط الاشكال القصوى من الاشتراكية، تظل الاشتراكية بصورة وسطية او جزئية موجودة و فعالة عن طريق دمجها بالليبرالية في اوروبا و امريكا اللاتينية و غيرها، و هي تنجح و تنمو عن طريق استخدامها لتحقيق العدالة الاجتماعية مع ترك الاسواق لتدفع عجلة النمو و الابتكار.
و خليك فلوطة...
---------------
ملحوظة: هذه السلسلة من المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأيي الشخصي او قناعاتي الشخصية، و احاول عن طريقها عرض وجهان نظر كما يعرضها اصحابها.
---------------
المقالات السابقة في السلسلة:
---------------
ملحوظة٢: اذا كانت هذه زيارتك الاولى الى المدونة، فارجو ان تتكرم بالقاء نظرة على القائمة التي على اليمين و التي تحتوي على اهم مقالات المدونة.
شكرا جزيلا.
No comments:
Post a Comment