هناك شعور عام بإستشراء الفساد في المجتمع. فالرشوى و المخدرات و الفقر و الطبقية و العنف و الجهل مازالوا ينهشون جسد مصر، و لن تقضي الثورة على هذه الاشياء بين يوما و ليلة. و عاشت مصر تحت قمع الانظمة المتعددة للحريات منذ انقلاب ١٩٥٢ تحت مسميات مختلفة، مثل الدفاع من مكتسبات الثورة ثم محاربة الشيوعية ثم محاربة التطرف، و دفع كل ذلك الشعب الى الانفجار في الثورة. و يشير العديد محقا لأهمية انتشار القيم الحنيفة في المجتمع، مثل المساواة و نظافة اليد و احترام الغير و الحرية و مساعدة المحتاج و التعليم و الاهتمام بالبيئة، و جعلها اولويات سياسية و اجتماعية. المشكلة هو اعتقاد البعض انه لابد من وجود مؤسسة او اشخاص ذات صفة دينية على رأس الحكم او بجانب الحكم لها قدرة في التحكم في قوانين البلاد و التأثير عليها، مثل النموذج الايراني، من اجل تحقيق تلك الاهداف. هناك في رأيي مشاكل عديدة في هذه الاطروحة و اود ان اقدمها بالنظر الى نتائج النموذج الايراني.
قبل الدخول في التفاصيل، لابد من شرح بعض معالم نظام الحكم في ايران بصورة تقريبية. ايران خليط بين الدولة الدينية (و هو ما يسمى بالثيوقراطية) و المدنية، و هي اقرب كثيرا للدولة الدينية. فبالرغم من وجود مؤسسات دولة حديثة كرئاسة و برلمان منتخب، الا ان السلطة تقوم على مبدأ يدعى ولاية الفقيه، و تقع القوة المطلقة في يد فقيه على اعلى رأس النظام. و كان اول فقيه في ذلك المنصب هو آية الله العظمى الخميني و تلاه آية الله العظمى/حجة الاسلام خامنئي، و اكتسب الخميني هو و منصبه صفة نائب المهدي المنتظر و صفة العصمة من الخطأ، و اصبح تحت يده سلطات لا محدودة، و يستطيع رفض قرارات البرلمان و اصدار بعض القرارات بصورة القانون، و منع ترشيح البعض للمناصب العامة و عزلهم ان كانوا معينين، بل و هو اعلى من رئيس الجمهورية المنتخب و يعين جزء من قادة الجيش و المجالس المحلية، و يستطيع عمليا تعطيل اي اتفاقيات دولية او حتى عقود شخصية (مثل الزواج)، و غيرها من السلطات اللامحدودة، و يشرف على تعيينه و متابعة ادائة و حتى امكانية عزله مجلس رقابي مخصوص و هو مجلس الخبراء، و هو مجلس منتخب انتخاب مباشر من قائمة منتقاة حددها بدوره مجلس آخر (لا يمكن الترشح له و انتخاب الشعب له من لا يختاره المجلس)، و هو مجلس حماية الدستور، و هو مجلس من فقهاء القانون و الدين هدفه التأكد من اختيار تفسير واحد فقط للشريعة متماشي مع مبادئ المذهب الشيعي الاثنى عشري، و التأكد من ان كل القوانين في الدولة تتماشى مع هذا التفسير، و اوقف هذا المجلس مع الفقيه الولي قوانين عدة، و مشاريع قوانين اكثر و يستطيعون التحكم في مناقشة المواضيع من حيث المبدأ مثاما نهى آية الله خامنئي عن اعادة مناقشة قانون الاعلام في البرلمان. و هناك بالطبع البرلمان، الا انه في الواقع اضعف من المؤسسات الاخرى.
فماذا حدث في ظل هذا الشكل التنظيمي للدولة؟
اولا، صودرت حرية الرأي تماما تحت مسمىات دينية، و تم القاء القبض على كل من اختلف في الرأي، و يستخدم التعذيب بصورة مستمرة، و سيطر على الاعلام بشتى انواعه. ثانيا، اصبح البرلمان محكوما من قبل الجهات الدينية، اولا نظرا لنفوذهم، و ثانيا لأنه بدأت بعض هذه المشايخ و الملالي في استخدام سلتطهم الدينية مباشرة و علانية لاصدار مراسيم بمنع بعض الاصلاحيين من الترشح من حيث الاساس للبرلمان و مجالس اخرى لعدم "مناسبتهم" و لابتعادهم عن القيم التقليدية. ثالثا، بدأت اعضاء البرلمان في مراعاة اعضاء المجالس الدينية و عدم تحديهم، و العكس، حتى يضمن الكل مكانه و استمراره، بل و دعا منذ فترة قريبة بعض البرلمانيين المتشددين الى اعدام بعض البرلمانيين الاصلاحيين! رابعا، يتم التأكد بشتى الصور من انتخاب العناصر اليمينية و التقليدية في شتى المجالس حتى لا تحدث تغيرات في شكل هياكل الدولة قد تفقد البعض مناصبه، و لذلك تكون بداخل الدولة تيار مسيطر مقاوم لأي صورة من صور التغيير دفاعا عن وجوده الشخصي. خامسا، اعطاء سلطات شبه لا محدوده لرأس النظام، و تمثل ذلك في استخدامات محاطة بعلامات تعجب، مثل تدخل آية الله شخصيا في حسم النتيجة لصالح احمدي نجاد في الانتخابات الماضية بالرغم من الشكوك الواسعة في نتيجة الانتخابات (و يقال بسبب رفض شخصي لموسوي) و اصدار آية الله تصريحات يفهم منها دعم احمدي نجاد اثناء الانتخابات، و هو المفترض التزامه الحياد في مثل هذه الاشياء. سادسا، اصبح العمل الاصلاحي الآن بصورة غير مباشرة جريمة قد تؤدي الى السجن او القتل او الاعتقال او التعذيب، و هناك العديد من التسجيلات لاطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الاصلاحيين او المعارضين في المظاهرات المصاحبة لانتخابات يونيو ٢٠٠٩ و التي تبعتها في يونيو ٢٠١٠ و المظاهرات الجديدة بعد الثورة المصرية، بالاضافة الى السجن و التعذيب عامة. سابعا، اصبح من العادي استخدام فزاعة معاداة الدين من قبل المحافظين و غيرهم بتدمير اي معارضة سياسية او اقتصادية او شخصية و هي قد تكون اساسا معارضة مختصة بأمور دنوية بحتة. ثامنا، يتم دفع البلاد في اتجاه سياسة خارجية قد تكون من الناحية الايجابية اكثر استقلالا من غيرها، الا انها اكثر عنفا و تحديا من اللازم في بعض الاحيان، قد خسرت بسببها ايران نقاط عديدة دبلوماسية كان من الممكن ان تحرزها في العالم.
و ليست المشكلة في الفكر الشيعي او في طبيعة الشعب الايراني قبل ان يبدأ البعض في قول ذلك، او يحاول ان يعتبر هذه المقالة شيئا باستثناء نقد لشكل تنظيمي لدولة، و لكن المشكلة في في الطبيعة البشرية و في اي تنظيم سياسي يعطي نفسه الحق للسيطرة الفكرية و الجسدية على المجتمع، تحت اي مسمى و لأي هدف. ففي مصر فعلنا نفس الاشياء دفاعا عن الاشتراكية في العهد الناصري؛ و في امريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية فعلوا نفس الاشياء دفاعا عن الرأسمالية ضد الشيوعيون "الخائنون من الامريكان" و غيرهم؛ و فعلها الروس عكسيا دفاعا عن الشيوعية و الاشتراكية ضد "القذارة الرأسمالية". هي طبيعة بشرية بالاساس، و تعددت الاسباب و القمع واحد. اذا سُمح لإنسان ان يتحكم في الآخرين جسديا او فكريا، و اعطيته فكرة عليا و عينته للدفاع عنها، فسيجد نفسه مضطرا في وقت من الاوقات لمجابهة اي تحدي او معارضة لها اما فكريا او جسديا و قانونيا، و اغلب الناس تختار الطريق الثاني، و هو طريق لا ينتج عنه سوى القمع و الخراب، اي كانت الايديولوجيا، و محاولة فرض توجه فكري واحد جبريا على المجتمع هي فكرة انتهت دائما بالفشل. فطالما حافظنا في المجتمع على الامن و الامان و حرية الرأي و كرامة الانسان، فلابد للحقيقة ان تفوز دون ان يحاول احدا ان يساعدها على ذلك باستخدام اساليب قمعية و عنيفة. و المجتمع دائما ما يطور نفسه، فخلع هدى شعراوي لغطاء الوجه السائد ايامها مثلا و سعيها لحقوق اوسع للمرأة، و الذي اثار زوبعة بين الناس حينئذ و هاجمها الجميع هجوما قاسيا، هو الآن امر طبيعي و معتنق و ليس فيه شيء صادم لأغلب المجتمع. و من علماء الدين الكبار و ومؤسساته من غيروا رأيهم في قضايا عديدة مثل فوائد البنوك و زرع قرنية شخص متوفي في عين شخص آخر و قضايا الخلايا الجذعية و الاراء حول التظاهرات و الاراء حول النقاب و غيرها من القضايا التي غير فيها علماء فقه مهمين ارائهم اثناء حياتهم نظرا لتطور الفكر و العلم و النضوج و تغير معطيات عديدة دنيوية و اعادة قرائة التاريخ، و زادهم ذلك في نظرنا احتراما و اجلالا نظرا لتواضعهم و أمانتهم الفكرية و لم ينقصهم، و في حالات اختلفت الناس معهم بصورة علنية و ادى ذلك الى حوار فكري دفع المجتمع الى الامام سواء عن طريق تغيير رأي العالم او رأي المجتمع او الاتفاق على ان الرأي يتحمل الاختلاف. و بعض الفتاوى قد تكون ذات نتيجة دائمة على البعض، فالبعض مثلا قد يفقد فرصة علاجية لا تكرر بسبب فتوى في امور طبية تم تفعيلها قانونيا ثم مراجعتها فيما بعد. و من نفس النصوص التاريخية و الدينية و التأملية تخرج الناس منها بمدارس فكرية مختلفة شديدة الاختلاف في التفاسير، و في ذلك حكمة سماوية، و ان كانت مجتمعة كلها حول حب الله و رسوله الكريم. و الاختلاف في الرأي رحمة، و الحوار يقرب الناس و لا يبعدها، و احيانا المقياس الوحيد لسلامة فكرة ما هو تجربتها على ارض الواقع بجانب افكار اخرى، و لا يمكن اغفال ان الثورة قامت ضد مبدأ اعطاء البعض الحق في تنصيب نفسهم كمتحكمون في المجتمع ولو لغرض ظاهره نبيل. و من يريد دليل على ذلك ان الدين ينمو في ظل الحرية و لا يضعف، اريد ان اقول ان الاسم الاول للمواليد في لندن لاعوام متتالية هو "محمد"، في احدى اكثر دول العالم ليبرالية، و ان الاسلام الديانة الاسرع انتشارا في اوروبا الآن. الدين يأمر بالحرية، و الحرية تدفع الدين الى الامام.
احدى مظاهرات الحركة الاصلاحية في ايران
No comments:
Post a Comment