لأول مرة في تاريخه سيكون أمام الشعب المصري فرصة ان يحكم نفسه بنفسه، و هو شيء مهول بكل المقاييس. و الجميع يستخدم كلمة "الديمقراطية" دون فهم حقيقي لمعناها و بتحريفات خطيرة لها، و ينجرفون في اتجاهات فكرية كارثية احيانا متحججين بهذه الكلمة الرنانة. و لذلك، فأعتقد انه حان الوقت لفهم هذه الكلمة كما يجب.
"الديمقراطية" تأتي من الاصل اليوناني "ديموكراتيا"، و تعني "حكم الناس"، و اشتراكهم في كل مراحل المناقشة و التحضير و التشريع لكل القوانين التي تحكم حياتهم. و ظهرت اول الديمقراطية شبه حقيقية في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، و كان لها اشكال عديدة، اشهرها كان في أثينا، حيث كانت العديد من المناصب العامة توزع لفترة محدودة على الناس في اقتراع عشوائي حتى يحصل الجميع على فرصة للمشاركة في الحكم، و كان كل الشعب يتجمع في مجلس كبير ليتناقشون حول القرارات المتعلقة بهم و ليصوتون عليها، مع استثناء فئات من الشعب مثل الاطفال و النساء و غير الاحرار و من لم يولد لأب و أم من أثينا. و كان هناك ايضا بالطبع مسئولون منتخبون لبعض الأمور و كان هناك قضاء يفض النزاعات و له سلطات واسعة ايضا. و يعتبر الشكل الاثيني نوع مما يسمي الديمقراطية المباشرة، اي ان الناس تحكم نفسها بنفسها مباشرة، مقارنة مثلا بالديمقراطية الحديثة Modern Democracy (و التي ايضا تسمى الديمقراطية الليبرالية Liberal Democracy) المستخدمة في أغلب انحاء العالم و هي الديمقراطية التمثيلية/النيابية، حيث ينتخب الشعب ممثلين له يحكمون بإسمه و يحمون مصالحه نظرا لإستحالة حضور ملايين الشعب كلها لتناقش و تصوت على جميع القرارات.
الموقع التاريخي الحقيقي الذي تناقشت فيه سكان اثينا ديمقراطيا، و يلاحظ منصة المتحدث
و تطورت الديمقراطيات التي تلتها على هذه الخلفية و مرت بأحداث تاريخية قامت بالتأثير عليها مرة تلو الاخرى، مثل معاهدة وستفاليا (و التي بدأت ترسيخ فكرة حرية الاديان و تشكيل شكل الدولة الحديثة من حيث استقلالية كل دولة داخل حدودها) و الثورة الفرنسية (التي رسخت فكرة معاداة الطبقية و حرية الشعوب)، و حركة الحريات المدنية الامريكية التي رسخت فكرة المساواة بين كل افراد الشعب، حتى وصلت الديمقراطية الى شكلها الحالي، محافظة على المبادئ الاساسية و هي اشتراك الشعب في مناقشة مستقبله، صياغة القوانين التي تحكمه، و التصويت عليها و تحويلها الى قوانين تحظى برضا القطاع الاعرض منه.
و الفكرة الشائعة ان البعض يعتقد ان الديمقراطية بالضرورة تعني حكم الاغلبية و احترام رغبتها اي كانت. و بينما ان في ذلك قدر من الصحة الا انه ليس دقيقا بصورة كاملة. فأولا، هناك صور أخرى من الديمقراطية، و منها الديمقراطية التوافقية و التي تحكم لبنان مثلا، و تقوم على مبدأ محاولة خلق توافق شبه تام بين الشعب كله في كافة قضايا الحكم، و هذا النوع من الديمقراطية مهم في دولة مثل لبنان، عانت من الطائفية و الحروب الاهلية و مازالت تعاني من الاضطرابات، و لابد من الحوز على اتفاق واسع في كل القضايا الاساسية للدولة. و مع ذلك، فإن في غير تلك الحالات، فذلك النوع من انواع الديمقراطية هو الاشد بطئً في الحركة و يتميز بالشلل المتكرر (انظروا الى الآزمة الحديثة المتعلقة بتعيين حكومة نجيب ميقاتي مثلا)، و لذلك تقوم الديمقراطية الحديثة على مبدأ احترام رغبة الاغلبية (و التي احيان يكفي ان تكون اكثر من النصف و احيانا اخرى الثلثين، و أخرى ثلاثة ارباعه)، اسراعا للعملية السياسية و محاولة لاحترام اكبر عدد ممكن من الناس. و هذا يأخذنا الى المأخذ الثاني.
فبالرغم من ان الديمقراطية هي المقابل للديكتاتورية، و هي تسلط فرد (ديكتاتور) او مجموعة قليلة على الشعب (او ما يسمى الاوليجاركية)، فوينستن تشيرشل قال مرة مقولته الشهيرة ان "الديمقراطية هي اسوأ انظمة الحكم، باستثناء كل الآخرين الذين تم تجربتهم"، حيث هناك الخوف من ما يدعى "ديكتاتورية الاغلبية". فإلاعتقاد العام انه يجب احترام اي ما تختاره الاغلبية، و ذلك ليس من الديمقراطية الحديثة اطلاقا، فالديمقراطية تعني حكم "الشعب" كله لنفسه، كاملا، بأغلبياته و اقلياته و افراده. ثانيا، ماذا لو قررت الاغلبية منع حرية الاعلام، او قمع ديانة معينة، او القتل المنظم لعرق ما مثلما حدث في عهد هتلر (و الذي وصل حزبه الى الحكم ديمقراطيا، و حظت تصرفاته الشنيعة برضا قطاع واسع من الشعب الذي كان مسحورا به، و الشعوب كلها معرضة لنفس هذه الهسيتيريا بشهادة التاريخ)! و بالتالي، فقد نتج عن مجموع التجارب الديمقراطية عبر التاريخ بكل نجاحاتها و اخفاقاتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادة مجموعة من القوانين التي تحكم و تتحكم في الديمقراطية بشكلها الحديث. تلك القوانين و القواعد تضمن الا تتحول الديمقراطية في يوم من الايام الى اداة قمع قي يد أغلبية مضللة او متأثرة بأفكار خاطئة او معلومات غير سليمة، اغلبية لم تكن لترضى بأي صورة من الصور ان يحدث فيها لو كانوا هم الاقلية ما قد يكونوا هم فاعلون بالآخرون الآن. تلك القواعد اهمها، و ليس كلها:
١- حرية الرأي القصوى: فهي اقدس حرية و قاعدة من قواعد الديمقراطية. فحتى لو فقد الشعب صوابه و دفع بنفسه في طريق خاطئ، فطالما ظلت حرية الرأي و التعبير عنه مكفولة بدون قيود (باستثناء ما يحض مباشرة على الكراهية و العنف و ازدراء الاديان) فسيكون بإمكان الشعب انتقاد و انقاذ نفسه و تدارك اخطائه. و هناك عدة تجارب في التاريخ عن فقدان الاغلبية لصوابها و قمع كل من خالفها في الرأي، مثل ايام فترة نشأة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي و الصين و فيتنام و كوريا الشمالية، و فترة المانيا النازية كما ذكرت سابقا، و ايطاليا الفاشية، و غيرها.
٢- تساوي المواطنين امام القانون في الحقوق و الواجبات: لا يوجد مواطن قيمته اهم من مواطن، و لا يحرم مواطن من حقوقه الديمقراطية بسبب العرق او الدين او اللغة او لسبب جغرافي او النوع، و لا يعفى مواطن من واجبات نحو الشعب و الدولة الا فيما كان لا جدل عليه.
٣- احترام حرمة الجسد البشري و حق الانسان في سلامته و أمانه و حق كل انسان في حياة كريمة: و لا تحتاج لتفسير. فلا للاعتقال الغير مسبب و لا للتعذيب (و قد يرى البعض استثنائات لتلك القاعدة)، و لا تجارب اجبارية على البشر او اي اعتداء اجباري على جسد انسان، كما انه من حق كل انسان ان يكون له فرصة متساوية في ان يتقدم اجتماعيا و نفسيا و ماديا في المجتمع.
٤- احترام الحرية الدينية و العقائدية للناس: بما لا يضر مباشرة الآخرين، و القصد ب"اضرار الآخرين" معروف و لا يقبل التأويل مثلما يفعل البعض، بمعنى انه لا يصح ان تخاف القانون و تضر احدا (تقتله مثلا) و تقول ان دينك امرك بذلك.
٥- احترام حقوق الافراد: اي ان احترام الحريات لا ينطبق فقط على الاغلبيات او الاقليات المنظمة التي تستطيع الدفاع عن نفسها، و لكنها تمتد للأفراد التي لا تنتمي لمجموعات أكبر. فالمجتمع يتكون من أفراد، و لابد بالتالي من احترام المجتمع ككل، و ايضا احترام اعضائه المنفردين الذين يكونوه.
٦- حرية العمل السياسي للأفراد و المجموعات: الا يتم تقييد الناس في ان تحاول التأثير على العملية السياسية و مستقبل الوطن بكافة الطرق المشروعة الا، مرة أخرى، فيما حض مباشرة على العنف و الكراهية و ازداء الاديان.
٧- الشفافية التامة في اساليب و اسباب اتخاذ القرارات في كافة اجهزة الدولة: بل، و اشراك المواطنين في الحوار حول هذه القرارات في الحوار سواء اعلاميا او مباشرة او عن طريق ممثليهم المعينين او المنتخبين، و التأكد من اشتراكهم في اتخاذ تلك القرارات بأي من الصور المذكورة سايقا.
٨- الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية: في ابسط صورها، ان يكون هناك فصلا في العمل بين الحكومة و البرلمان و القضاء، و الا يستطيع احدهم التأثير بصورة مبالغة و غير دستورية على الآخر. فالديمقراطية تقوم على هذا اساس هذه الآلية البسيطة بأشكالها: يتم اقتراح قوانين من ممثلي الشعب في البرلمان او من التنظميات الجماهيرية (كالاحزاب) او الحكومة نفسها، و تناقش هذه القوانين المقترحة في البرلمان و قد تمرر. و عند مناقشتها او اذا مررت او كانت على وشك ان تمرر، فعلى القضاء مراجعتها و تحديد اذا كانت متماشية مع الدستور او لا، و اسقاطها اذا لم تكن كذلك. و بعد تمريرها، فعلى القضاء مراقبة الحكومة و الشعب و التأكد من اي من افرادهم او جهاتهم لم تخالف تلك القوانين، و معاقبة من خالفها. و بالتالي، فأي تداخل بين تلك السلطات الثلاث قد يؤدي الى الفساد و تركز القوة في يد البعض و الى الظلم و الاستبداد و انهيار تكامل الدولة.
٩- السلطة الرابعة، الاعلام: لا ديمقراطية و لا حرية و لا نمو و لا ازدهار بلا اعلام حر غير خائف او مهدد.
اذا، فالديمقراطية ليست حكم الاغلبية فحسب، و لكنها حكم الناس كلها لأنفسها، بما يشمل الجميع بصورة متساوية، و بما لا يقمع احد افراد المجتمع او مكوناته او يضرهما، و بما لا يقتل الديمقراطية نفسها عمليا او رسميا و يدمر الحرية العامة و الشخصية. الديمقراطية ليست مطلقة، فهي ليست حرة ان تقتل نفسها بنفسها.
ليس من حق الاغلبية ان تفعل كل ما تريد...
----
---------------
اذا اعجبتك المقالة، ارجو المساهمة في نشر المعرفة السياسية عن طريق نشرها بين من تعرف. غير ذلك، فسأستفيد جدا اذا ضغطت على LIKE او TWEET. و تابعني على تويتر اذا امكن بالضغط على FOLLOW بالاسفل.
---------------
المقالات السابقة في السلسلة:
---------------
ملحوظة: اذا كانت هذه زيارتك الاولى الى المدونة، فارجو ان تتكرم بالقاء نظرة على القائمة التي على اليمين و التي تحتوي على اهم مقالات المدونة.
ارجو متابعة المدونة عن طريق الضغط على Follow With Google Friend Connect.
اذا اعجبتك المقالة، ارجو المساهمة في نشر المعرفة السياسية عن طريق نشرها بين من تعرف. غير ذلك، فسأستفيد جدا اذا ضغطت على LIKE او TWEET. و تابعني على تويتر اذا امكن بالضغط على FOLLOW بالاسفل.
No comments:
Post a Comment